تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثالثا: إذا شهد الصحابة على شخص بأنه منافق أو على شخص بأنه مؤمن، فهل يمكن أحدا أن ينازع في هذا بدعوى أن الإجماع ليس بحجة!!

إذا لم يكن هذا ممكنا فلا فرق بين الشهادة على شخص والشهادة على حكم شرعي، بل الثاني أقوى.

فدليلك يقرن بين شيئين غير متلازمين: الشهادة على الناس والصلاح من جهة وعدم جواز المخالفة في مسألة ظنية استأثر الله بعلم الحق فيها.

لماذا حصرت الكلام على المسائل الظنية هنا؟ وما معنى قولك (استأثر الله بعلم الحق فيها)؟

هذه مصادرة واضحة على المطلوب، وليس عندك دليل قط (!) على أن الله قد استأثر بعلم الحق في المسائل الظنية.

ثم إن التفريق بين المسائل الظنية والقطعية لو سلمناه لم يكن لك فيه حجة إلا الإجماع، وإن لم نسلمه كان كلامك باطلا.

أما قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) ففيه دعوة لعدم الافتراق وفرق بين الاختلاف والخلاف فالاختلاف سنة الله في كونه أما الخلاف والشقاق فمذموم

هذه الآية دليل واضح جدا عند العقلاء على حجية الإجماع؛ لأننا إذا افترضنا الآن أنه لا يوجد أحد من العلماء يقول بقول معين، ثم جاء أحد المدعين للاجتهاد وزعم أن اجتهاد أداه إلى قول لم يسبق إليه، فهل يقول عاقل إن هذا الشخص قد اعتصم بحبل الله ولم يتفرق؟!

أم يسبق إلى قلب كل مؤمن أن هذا الشخص قد شق عصا المسلمين وفرق جمعهم بما أحدث من الأقوال؟

والمسألة الظنية ينظر فيها العلماء بأنظارهم المختلفة وإذا اختلفت أنظارهم كما هو الواقع في معظم مسائل الدين فلا يعني أن أحد المختلفين غير معتصم بحبل الله وإلا لما كان الاختلاف الفقهي مستساغا.

لو سلمنا بكل هذا الكلام الذي تقوله فلا حجة لك فيه مطلقا.

ثم حتى لو فرضنا أن لك فيه حجة، فهو كله معتمد على الإجماع، فإن صح لزم صحة الإجماع، وإن لم يصح سقط كلامك.

وأما قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولَّى ونصله جهنَّم وساءت مصيراً) فهي أقوى ما استدل به القائلون بالإجماع من كتاب الله تعالى وعلى التسليم بدلالتها على ذلك فدلالتها ظنية غير قطعية

القائلون بالإجماع هم سلف الأمة وأئمتها من كل عصر، والمخالفون في ذلك إما أهل بدع وضلال، وإما علماء زلوا في هذه المسألة عن سبق نظر، فأدلة الإجماع خارجة عن الحصر باستقراء نصوص الشريعة جميعا وتأملها، وإنما ذكر هذه الآية من ذكرها -كالإمام الشافعي وغيره- اقتصارا لعدم وجود المنازع في الحجية، فالمنازع إنما كان يسأل عن الدليل من القرآن لمجرد المعرفة، أما المنازعة في حجية الإجماع فلم تحصل قط (!) قبل الشافعي إلا أن يكون من أهل البدع والضلال.

لأن الآية إنما تتحدث عمن بلغه من الرسول الهدى ثم شاقق بعد ذلك واتبع غير ما اتبعه المؤمنون. ولو سلم بدلالة هذه الآية على الإجماع بمنطوقها لكان ذلك محصورا في الإجماع على سنة النبي صلى الله عليه وسلم غير شامل لاجتهادات الفقهاء في غيرها.

هذا القول لا يصدر إلا ممن لا يحسن فهم كلام العرب، واعذرني فأنا لا أصفك بهذا؛ لأنك لم تأت بهذا الكلام من كيسك وإنما نقلته عن غيرك، فهو مشهور في كتب القوم.

ولو قال القائل لابنه: (إذا سمعت كلامي وسمعت كلام المعلمين في المدرسة فسأعطيك جائزة) فهل يمكن عاقلا أن يفهم من هذا الكلام أن المراد (إذا سمعت كلامي أنا وحدي فقط، ولا عبرة بكلام المعلمين)؟!

طيب، فرضنا أن الآية تتحدث عمن بلغة الهدى ثم شاقق، فكان ماذا؟

هل هذا يعني أن مشاقة سبيل المؤمنين جائزة وصواب؟!

قولك (بمنطوقها) استناد منك إلى تقسيم الكلام إلى (منطوق) و (مفهوم) ولو قيل لك: لا نسلم لك بهذا التقسيم لم يكن لك حجة إلا الإجماع.

ولو قيل لك ما الدليل على حجية المنطوق دون المفهوم؟ لم يكن لك حجة إلا الإجماع.

قولك (لكان ذلك محصورا في الإجماع على سنة النبي)

طيب لو جاءك إجماع على إحدى السنن، أليس يمكن بعضَ الناس أن يقول: لا أسلم أن هذا الإجماع على سنة، ثم يفسر نص السنن بحسب هواه، ومن ثم يستطيع -بناء على كلامك- أن يسقط حجية الإجماع؟!

يعني ما الفرق الذي تراه مؤثرا بين الإجماع على سنة والإجماع من غير سنة؟!

أنت تزعم أن الإجماع على سنة فقط هو الحجة (تنزلا منك!)، وأما الإجماع من غير نص فلا يعد حجة، فماذا تقول لجمهور العلماء الذين يقولون: إن الإجماع لا يمكن أن يحصل إلا بناء على دليل من الدلائل الشرعية، فإن كنت تقصد هذا فلا نزاع بيننا.

وإن كنت تقصد أن الإجماع لا يمكن أن يحصل إلا على نص بمعنى أن الإجماع هو عين النص، فهذا لا ينبغي أن يقوله عاقل.

وأنا أسألك الآن: كيف يمكن فهم أي نص شرعي من غير الاعتماد على الإجماع؟

وأما استدلالك بقوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ... ) فإن الآية تنص على وجوب الرجوع في الحكم إلى الله لأنه هو الحكم وهو المحلل والمحرم فإن كان من حكم هناك منصوص عليه فيجب الأخذ به أما إذا لم يوجد فذلك من المسكوت عنه على الذين يستنبطون الأحكام من العلماء أن يستنبطوا الحكم الذي لا يتعارض وما أنزل الله

ليس هذا هو المراد، بل المراد الاستدلال بالمفهوم؛ لأنه قد كان يمكن أن يقول: (وما ابتغيتم من شيء فحكمه إلى الله) أو نحو هذا، فلما خص الأمر بالاختلاف دل على أن اتفاقهم بمجرده حجة مغنية عن الرجوع إلى النصوص.

وهذا الدليل مبني على حجية المفهوم، ويبدو أنك تنازع في هذه الحجية، وقد وقع الخلاف بين أهل العلم في حجية المفهوم، ولكن الذي يخفى على كثير من طلبة العلم كما قلنا سابقا أن الكليات الشرعية لا تثبت بالدلالات المفردة، وإنما باستقراء الدلالات في سياقاتها ومواضعها المختلفة، ولا جرم تتفاوت هذه الدلالات قوة وضعفا بحسب سياق الكلام، فالحجة القطعية هي في مجموع الأدلة وليس في مفرداتها.

وسياق الآية واضح في أن المراد القضاء على الخلاف بالرجوع إلى ما أنزل الله. ولا دلالة فيها على الإجماع لا نفيا ولا إثباتا.

كلام واضح الخطأ، مبني على عدم التأمل؛ لأن استعمال كلمة (اختلفتم) في هذه الآية لا بد أن يكون لها دلالة وإلا كانت لغوا يتنزه عنه آحاد العقلاء فضلا عن رب الأرض والسماء.

والله تعالى أعلم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير