وأخبرنا الآن كيف الأمر إذا قال بعضهم قولا لا نص فيه، أتقطع على أنه حق، وأنت لا تدري أيجمع عليه سائرهم أم لا؟ أم تقف فيه؟ فإن قال: أقطع بأنه حق، قلنا: حكمت بالغيب وبما لا تدري، وحكمت بالباطل بلا شك، فإن قال: بل أقف فيه حتى يجمع عليه سائرهم قلنا: فإنما يصح إذ قال به آخر قائل منهم، فلا بد من نعم! فيقال لهم: فلو خالفهم فعلى قولك لا يكون حقاً، فمن قوله نعم! فيقال له: فكيف يكون حقاً ما يمكن أمس أن يكون باطلاً، وهذا حكم على الله تعالى، وليس هذا حكم الله وكفى بهذا بيانا.
وأيضا فإن اليقين قد صح: بأن الناس مختلفون في هممهم، واختيارهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه، وينفرون عما سواه متباينون في ذلك تبايناً شديداً متفاوتا جدا. فمنهم رقيق القلب يميل إلى الرفق بالناس، ومنهم قاسي القلب شديد يميل إلى التشديد على الناس، ومنهم قوي على االعمل مجد إلى العزم والصبر والتفرد، ومنهم ضعيف الطاقة يميل إلى التخفيف، ومنهم جانح إلى لين العيش يميل إلى الترفيه، ومنهم مائل إلى الخشونة مجنح إلى الشدة، ومنهم معتدل في كل ذلك إلى التوسط، ومنهم شديد الغضب يميل إلى شدة الإنكار، ومنهم حليم يميل إلى الإغضاء، ومن المحال اتفاق هؤلاء كلهم على إيجاب حكم برأيهم أصلاً، لاختلاف دعاويهم ومذاهبهم فيما ذكرنا، وإنما يجمع ذو الطبائع المختلفة على ما استووا فيه من الإدراك بحواسهم، وعلموه ببدائة عقولهم فقط.
وليست أحكام الشريعة من هذين القسمين، فبطل أن يصح فيها إجماع على غير توقيف، وهذا برهان قاطع ضروري " أ. هـ.
للفائدة والاستزادة حول هذا الموضوع انظر " الإحكام في أصول الأحكام " للإمام ابن حزم (4/ 131 ـ 139).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في " مجموع الفتاوى " (19/ 195):
" فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص، وهو دليل ثان مع النص، كالأمثال المضروبة في القرآن وكذلك الإجماع دليل آخر كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها، فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة، وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه، ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص .. ثم قال: وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصاً فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص، لكن النص عند غيرهم، وابن جرير وطائفة يقولون: لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول، مع قولهم بصحة القياس، ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى كما تنقل الأخبار، لكن استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة، وكثير من العلماء لم يعلم النص، وقد وافق الجماعة، وكما أنه قد يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع " أ. هـ.
انظر كذلك " إرشاد الفحول " للإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ (ص:145 ـ 146).
قال العلامة أحمد محمد شاكر ـ رحمه الله ـ معلقا على اختيار الإمام ابن حزم ـ رحمه الله ـ في اختيار معنى الإجماع كما في حاشية " الإحكام " (4/ 142):
" هذا الذي ذهب إليه المؤلف هو الحق في معنى الإجماع والاحتجاج به، وهو بعينه المعلوم من الدين بالضرورة. وأما الإجماع الذي يدعيه الأصليون فلا يتصور وقوعه ولا يكون أبداً وما هو إلا خيال. وكثير ما ترى الفقهاء إذا حزبهم الأمر وأعوزتهم الحجة ادعوا الإجماع، ونبزوا مخالفه بالكفر، وحاش لله. إنما الإجماع الذي يكفر مخالفه هو المتواتر المعلوم من الدين بالضرورة ... " أ. هـ.
قال الألباني ـ رحمه الله ـ في " أحكام الجنائز " (ص: 219 ـ 220) متعقبا من زعم الإجماع على أن الصدقة تقع عن الميت:
" ولكنني في شك كبيرٍ من صحة الإجماع المذكور، وذلك لأمرين:
الأولُ: أن الإجماع بالمعنى الأصولي لا يُمكن تحققه في غير المسائل التي عُلِمَتْ من الدين بالضرورة، كما حقق ذلك العلماء الفحولُ كابن حزم في " أصول الأحكام " والشَّوْكاني في " إرشاد الفحول "، والأستاذَ عبدالوهاب خلاّف في كتابه " أصول الفقه " وغيرهم، وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد في كلمِتهِ المشهورة في الرد على من ادعى الإجماع. ورواها عنه ابنُهُ عبدُالله بن أحمد في " المسائل ".
الثاني: أنّني سبرتُ كثيراً من المسائل التي نقلوا الإجماعَ فيها، فوجدتُ الخلافَ فيها معروفاً! بل رأيتُ مذهب الجمهورِ على خلاف دعوى الإجماعِ فيها، ولوشِئْتُ أن أوردَ الأمثلة على ذلك لَطالَ الكلامُ وخَرَجْنا به عمّا نحنُ بصددِه، فحسبُنا الآن أن نُذَكِّر بمثال واحدٍ، وهو نَقْلُ النوويِّ الإجماعَ على أن صلاة الجنازة لا تُكره في الأوقاتِ المكروهةِ! مع أنّ الخلافَ فيها قديمٌ معروفٌ، وأكثرُ أهلِ العلم على خلافِ الإجماع المزعوم، كما سبقَ تحقيقهُ في المسألة (87) .. " أ. هـ.
قال الإمام ابن حزم ـ رحمه الله ـ في " المحلى " (5/ 125 ـ 126) متعقبا من حكى الإجماع على عدم الزيادة على اربع تكبيرات على الميت:
" أف لكل إجماع يخرج عنه علي بن أبي طالب، وعبدالله بن مسعود، وانس بن مالك، وابن عباس والصحابة بالشام رضي الله عنهم ثم التابعون بالشام، وابن سيرين، وجابر بن زيد وغيرهم بأسانيد في غاية الصحة، ويدعي الإجماع بخلاف هؤلاء بأسانيد واهية فمن اجهل ممن هذا سبيله؟ فمن أخسر صفقة ممن يدخل في عقله أن إجماعاً عرفه أبو حينفة ومالك والشافعي، وخفي علمه على علي، وابن مسعود، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، وابن عباس، حتى خالفوا الإجماع؟ حاشا لله من هذا " أ. ه.
(فائدة): قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في " مجموع الفتاوى " (13/ 341):
" ولا يعلم إجماع بالمعنى الصحيح إلا ما كان في عصر الصحابة أما بعدهم فقد تعذر غالباً " أ. هـ.
¥