-المثال الأول:روى جماعة من الصحابة (14 نفسا) عن النبي صلى الله عليه وسلم فسخ الحج إلى العمرة وقد ذهب أبو ذر وبلال ابن الحارث وعثمان ابن عفان وعمر ابن الخطاب رضي الله عنهم إلى خصوصية هذا الفسخ وخالفهم جماعة أخرى من الصحابة منهم عمران ابن حصين وابن عباس وابن عمر وسعد ابن أبي وقاص وعلي ابن أبي طالب وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم فقالوابعموم ذلك ولكل دليله فيما ذهب إليه غير أن السبب الرئيس في هذا الخلاف تعارض ظواهر الأحاديث لا من حيث الدلالة فحسب بل من حيث العموم والخصوص فإن القائلين من الصحابة بكراهة فسخ الحج إلى العمرة لا يُنكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم امر أصحابه بذلك بل يدعون الخصوصية والقائلون بالتعميم يستصحبون الأصل ويطالبون الآخرين بدليل ناقل عن الأصل
-المثال الثاني: نزل النبي صلى الله عليه وسلم بعد حجته وهومودع مكة بعد حجته في البطحاء (المحصب) وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في نزوله هذا هل هو على جهة التشريع فيستحب النزول به -وهذا مذهب أبي بكر و عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهم-
أم جبلي محض فعله النبي صلى الله عليه وسلم لكونه أسمح لخروجه من مكة كما ذهبت إليه عائشة وابن عباس رضي الله عنهم (راجع صحيح البخارح (1715 - 1716)
وهذا الخلاف في دلالة الفعل على التشريع أو الجبلة ترتب عليه الخلاف في كثير من التفاصيل في الحج وغيره ومن ذلك:
-خلافهم في دخول مكة من الثنية العليا وخروجه من السفلى
-وخلافهم في ركوبه صلى الله عليه وسلم في الطواف وفي الوقوف بعرفة وغيرهما من أعمال الحج
ونظائر ذلك كثيرة.
-المثال الثالث:
أخرج البخاري (ح1520) ومسلم (ح 1270) عن عمر رضي الله عنه أنه وقف عند الحجر الأسود وقال إنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبلك ما قبلتك
وفي البخاري (ح1528) أنه قال أيضا:مالنا وللرمل وإن كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله ثم قال: شئ صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نحب أن نتركه
ففي هذا الحديث نرى أن عمر رضي الله عنه ذهب إلى مشروعية الرمل بالرغم من زوال العلة التي شرع من أجلها وهي مغايظة المشركين ومراغمتهم وإظهار الجلد لهم في عمرة القضاء، في حين ذهب ابن عباس إلى عدم مشروعية الرمل لزوال العلة، ولا شك أن مذهب عمر رضي الله عنه أرجح لكون النبي صلى الله عليه وسلم رمل في عمرة الجعرانة وحجة الوداع بعد زوال العلة، ولكن محل الاستشهاد من الحديث أن الخلاف في بقاء الحكم بعد زوال علته أوزواله بزوالها سبب من أسباب الخلاف تتأرجح فيه ظنون المجتهدين بين الإعمال والإهمال فيحتاج إلى أدلة خارجية تُرجح أحد الجانبين والمرجحات كثيرة والناس متفاوتون في الاطلاع.
وقبل أن نغادر هذا المثال لا بد أن نقف وقفة إجلال وإكبار لما كان عليه عمر رضي الله عنه من الوقوف عند السنة والعمل بها بغض النظرعن فهم العلة من العمل، ذلك أن الشارع لا يُحيط البشر بكنه علله،ولا يمكن أن يطلعوا على جميع حكمه ولكن عمر هنا قبل الحجر مع أنه لا يعلم لذلك علة إلا أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله ورمل مع أنه يعرف العلة التي من أجلها شرع الرمل ويعرف زوالها لكنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعله-والظاهر أنه يعني فعله له في حجته بعد زوال العلة-فتمسك بالنص مع الجهل بالعلة واحتفظ به مع العلم بها وبزوالها.
ونظير فعل عمر رضي الله عنه في ذلك إنكار ابن عباس رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه استلام جميع أركان البيت بالطواف فقال معاوية:ليس شئ من البيت مهجورا فقال ابن عباس رضي الله عنهما:لكن لم أر الرسول صلى الله عليه وسلم استلم إلا الركنين اليمانيين ثم تلا قوله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فتراجع معاوية رضي الله عنه تحت سلطان الحجة وفي ذلك درس آخر أن الحق أحق أن يتبع وأن الدليل هو ميزان الحق.
الوقفة الرابعة: الاجتهاد الفردي لا ينبغي أن يكون على حساب وحدة الجماعة
أخرج البخاري (ح1574) ومسلم (695) عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه في شأن صلاته بمنى أنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق فيا ليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان.
¥