إن المتأمل في مسيرة الفقه الإسلامي لا يلبث أن يشد انتباهه ظاهرة فريدة ومتميزة تخص المغرب الإسلامي والتي تكمن في أن الفرق الكلامية -عدا المدرسة السنية- والمذاهب الفقهية -عدا المذهب المالكي- ما لبثت أن تقلص نفوذها واضمحل وجودها بعد انتشارها بزمن ليس بالطويل. وهذه الظاهرة التي يتميز بها المغرب الإسلامي عن سائر الأقطار الإسلامية الأخرى لتدعونا إلى التساؤل: لماذا انتشرت هذه الآراء دون غيرها؟ وكيف استمرت؟ وما العوائق التي واجهتها؟ وكيف تعاملت مع هذه العوائق؟ ثم: ما هو الأثر الذي لعبته هذه الآراء في الحياة المغاربية؟
وتجيء هذه المقالة كمحاولة للإجابة على سؤال واحد فقط & shy; هو الأول & shy; ومقتصرا على الفقه دون غيره؛ ولا تعدو أن تكون منبها إلى قيمة الموضوع و مفتاحا لدراسات معمقة تجلي حقيقة الموضوع بوضوح أكثر و طرح أدق بهدف:
1 - المساهمة في خدمة المذهب المالكي:بإبراز عوامل نشوئه ونموه واستمراره.
2 - المساهمة في عملية فهم الواقع المغاربي من أجل:
إدراك الوظيفة التاريخية للمغرب الإسلامي.
إدراك مدى مساهمة المذهب المالكي في تعميق وتأصيل هذه الوظيفة.
والغرض العملي من كل هذا هو:
فهم أثر المذهب المالكي في تشكيل الواقع المغاربي المعاصر حتى لا يُتجاهل في أي عملية تغييريه أو تنموية.
تطوير وتحسين الأداء التغييري للحركات الاجتماعية في المغرب الإسلامي من خلال الحفاظ على هذا المكسب الثمين الذي حافظ على وحدة المجتمع وهويته الثقافية و من خلال التركيز على استغلاله بشكل يدعم عملية التغيير ويساندها. والله المستعان.
مدخل تاريخي
ما لبث أوائل المغاربة الذين أسلموا أن أحسوا بواجبهم تجاه فهم هذا الدين وتعلم أحكامه ثم الالتزام بتعاليمه وأوامره ونشره في المناطق الخام التي لم تعرف بعد هذا الدين أو لم تتقبله جيداً؛ لذا تراهم يرحلون من أجل تعلم هذا الدين إلى الكوفة والبصرة ودمشق ومصر فضلا عن مكة والمدينة؛ ولم يكتفوا بالأخذ عن الصحابة الذين دخلوا إفريقيا أو التابعين الذين استقروا بها أو الذين زاروها ثم رجعوا إلى إقاماتهم دون أن ننسى الوفد الذي أرسلته السلطة السياسية الحاكمة في دمشق في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز؛وبدأ بهذا انتشار العلم بالمغرب الإسلامي بالتعلم في الوطن أولا ثم بالرحلة إلى الحواضر العلمية للاستزادة ثانيا.
وبعد عودة الذين رحلوا لطلب العلم إلى بلادهم بدأت فكرة انتشار مذاهب فقهية معينة في بلاد المغرب خاصة مذهب أبي حنيفة النعمان ومذهب مالك بن أنس وبدرجة أقل مذهب الأوزاعي. ثم كثر أتباع الإمام مالك وانتشروا في البلاد انتشارا واسعا حتى استحوذ هذا المذهب على الساحة الفقهية المغاربية حتى صار لا يُفتى إلا به ولا يُولى إلا من انتسب إليه؛ وبذلك تشكل واقع متميز تمكن من القضاء على المذاهب المنافسة & shy; أو تحجيمها على الأقل & shy; حتى أنّ الرحالة المغاربة كانوا يتفاجؤون من تعدد المذاهب التي يرونها في رحلاتهم إلى المشرق إضافة إلى بعض التصريحات الدالة على هذه السيادة مثل ما قاله ابن التبان لو نشرت بين اثنين ما خالفت مذهب مالك أو مثلما تعبر عنه بعض الأمثال الشعبية الشائعة: "سيدي خليل والألفية، الحكمة ثمة مخفية" دون أن ننسى تأثر القوانين الحالية بالمذهب المالكي خاصة في ما يتعلق بشؤون الأسرة. فهذه الأدلة وغيرها تؤكد سيادة المذهب المالكي على الربوع المغربية وإذا ما حاولنا تعليل ذلك بالنظر في أسباب هذا الواقع خلُصنا إلى ثلاثة عوامل أساسية هي:
العامل النفسي / الاجتماعي
العامل الجغرافي.
العامل السياسي.
أولا: العامل النفسي/الاجتماعي
ويتلخص هذا العامل في الأسباب التالية: 1/ تأثير الإمام مالك بن أنس على المغاربة:
¥