فلا مشاحة في الاصطلاح، إذ العبرة في المضمون.
وقد بسط القول في أنواع القرينة سعد الدين التفتازاني في كتابه التلويح حيث قال:" اعلم أن القرينة إما خارجة عن المتكلم وَالكلام، أي لا تَكُونُ معنى في المتكلم أي صفة له ولا تكون من جنس الكلام أَوْ تكون معنى في المتكلم أَوْ تكون من جنس الكلام، ثم هَذِهِ القرينة التي هي من جنس الكلام إما لفظ خارج عَنْ هَذَا الْكَلامِ الذي يكون المجاز فيه بَلْ يكون فِي كلام آخر أي يكون ذلك اللفظ الخارج دالا على عدم إرادة الحقيقة أو غير خارج عن هذا الكلام بَلْ عين هذا الكلام أَوْ شيء منه يكون دالا على عدم إرادة الحقيقة، ثم هذا القسم عَلَى نَوْعَيْنِ إمَّا أَنْ يكون بعض الأفراد أولى كَمَا ذَكَرَ فِي التخصيص أن المخصص قد يكون كَوْنَ بَعْضِ الأفراد نَاقِصًا أَوْ زائدا فيكون اللفظ أولى بِالْبَعْضِ الآخر، فَإِذَا قال كل مملوك لي حر لا يقع على المكاتب مَعَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ مملوك حقيقة، فيكون هذا اللفظ مجازا مِنْ حَيْثُ إنه مقصور عَلَى بَعْضِ الأفراد، وهو غير الْمُكَاتَبِ أَوْ لم يكن بَعْضُ الأفراد أولى فانحصرت القرينة فِي هذه الأقسام" [32] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn32) .
والحاصل أن قرائن اللفظ أو المقال يراد بها كل ما له أثر في توجيه دلالات الألفاظ:
من حيث الاستعمال: الحقيقة والمجاز
من حيث الوضوح والخفاء: النص والظاهر والمجمل والمشترك
من حيث طرق الاستدلال: المنطوق والمفهوم
من حيث الشمول والحصر: العموم والخصوص
من حيث الإطلاق والتقييد: المطلق والمقيد
من حيث صيغ التكليف: الأمر والنهي
ويدخل في جملة هذه القرائن قرينتي السباق واللحاق، أي دليل السياق بالمعنى الذي سبق ذكره.
أما قرائن الحال أو المقام فيراد بها عناصر كثيرة تتصل بالمتكلم والمخاطب، وبالظروف الملابسة للخطاب، أي مجموع الظروف المحيطة بالكلام، وهي تكاد لا تدخل تحت الحصر، بل جزم بذلك الإمام الجويني حيث قال:" أما قرائن الأحوال فلا سبيل إلى ضبطها تجنيسا وتخصيصا" [33] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn33)،" ولو رام واجد العلوم ضبط القرائن ووصفها بما تتميز به عن غيرها، لم يجد إلى ذلك سبيلا، فكأنها تدق عن العبارات وتأبى على من يحاول ضبطها بها" [34] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn34).
وعموما، فإن الناظر في كتب أصول الفقه يتبين له مدى تمثل علماء الأصول لعناصر السياق و تقدير أثرها في تحديد المعاني وتوجيه الأحكام.
و يلاحظ أنه على الرغم من أهمية أمر السياق ـ أو القرائن ـ عند المتقدمين، فلا أحد منهم ـ حسب علمي ـ أفرد الموضوع بالتأليف والتصنيف أو حتى بالتبويب كسبيل منهجي للتعريف به و بمنزلته و بمجالاته وضوابطه، وكان تناولهم للقرائن، من حيث شروط اعتبارها وأثرها في توجيه الدلالات والأحكام، موزعا على المباحث الأصولية {مبحث الأمر والنهي، مبحث العموم ومخصصاته، مبحث الحقيقة والمجاز .... } ومتناثرا في سياقات الأقوال وثنايا الكلام عن وسائل الاستدلال بالخطاب الشرعي.
إن المجالات التي يستحضر فيها السياق كثيرة، فهو كما قال ابن القيم: "يرشد إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظراته، فانظر إلى قوله تعالى: "ذق إنك أنت العزيز الكريم" [35] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn35) كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير" [36] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn36).
ولما كان مبحث الأمر والنهي من أهم المباحث الأصولية التي كان للقرائن فيها أثر بارز في توجيه أحكامهما، ارتأيت أن أركز الكلام عنهما و أذكر أهم القضايا التي أفاض العلماء القول فيها من حيث اعتبار القرائن فيها و عدمه، وإن كنت أعتقد أن هذا البحث لن يتسع من ذلك كله إلا إلى إشارات عسى أن تتاح فرص أخرى لبيان أثر القرائن في كل ما ذكره علماء الأصول.
3 - أثر القرائن في توجيه دلالتي الأمر والنهي
¥