الحرج عن المكلفين، وقاعدة المشقة تجلب التيسير، وقاعدة العدل، وقاعدة الإحسان ونحوها لا بد من إحاطة المفتي بها والتمرس على درايتها والتعمق في أعماقها، وأن يفتي بالدليل الجزئي من آية أو حديث ويربط بينه وبين الكليات العامة للتشريع والمقاصد العامة للشريعة، ولهذا نجد أن الشاطبي حصر درجة الاجتهاد في شرطين:
- فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
- التمكن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها.
ومثال ذلك: إن الشرع قصد إلى إقامة العدل ونفي الظلم في المعاملات عامة وفي العقود خاصة فإذا تضمن العقد ظلماً بيناً بأحد الطرفين أو كليهما فلا يسع المفتي تجاهل ذلك بدعوى استيفائه لأركانه وشروطه الظاهرية، لأن العقود الظالمة ظلماً بيناً مخالفة صريحة لمقاصد الشريعة.
ومثاله أيضا قتل الجماعة بالواحد يخالف قاعدة المثلية، ولكن ضرورة حفظ الأنفس التي من أبرز مقاصد الشريعة اقتضت قتل الجماعة بالواحد إذا اشتركوا في القتل لأنه لو لم يقتلوا لكان ذلك مغرياً باللجوء إلى القتل المشترك هرباً من القصاص.
فإذا لم تتحقق مراعاة هذا الشرط أو الضابط وقع المفتي في التخبط والاضطراب والزلل، حتى لتجده آخذاً ببعض جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها، قال الشاطبي:" فزلة العالم أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشرع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه"، ذلكم أن المقاصد أداة لإنضاج الاجتهاد وتقويمه وأداة لتوسيعه وتمكينه من استيعاب نوازل الحياة بكل تقلباتها وتشعباتها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن كل من كتب عن الغلو وأسبابه وأثاره يذكر إغفال مقاصد الشريعة في فهم النص الشرعي أهم العوامل على الاطلاق.
ويتفرع عن هذا الضابط عدة قواعد أهمها اثنتان:
1 - قاعدة التيسير ورفع الحرج: لابد للمفتي من مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية في اليسر ورفع الحرج بدون تضييق ولا خشونة حتى لا يضيق على المستفتي ويوقعه في الضيق والحرج والله عز وجل يقول" يريد الله بكم السير ولا يريد بكم العسر" والشريعة حمل على الوسط لا على مطلق التخفيف ولا على مطلق التشديد، قال الشاطبي: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى درجة الانحلال، والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مرّ أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين، خرج عن قصد الشارع ولذلك كان مَنْ خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين …فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق، أما طرف التشديد فإنه مهلكة وأما طرف الانحلال فكذلك أيضاً؛ لأن المستفتي إذا ذُهِبَ به مذهب العنت والحرج بُغِّض إليه الدين وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة، وهو مشاهد، وأما إذا ذُهِبَ به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي على الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلك، والأدلة كثيرة"، فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضاداً للمشي على التوسط كما أن الميل للتشديد مضاد له أيضاً، بل إن التضييق على المفتي قد يفتح له باب المحظور قال ابن العربي:" فالأفضل للمفتي أن يفتح له بابا يمشي به على طرائق فإنه إن سد عليه باب الشرع فتح هو إلى الحنث بابا يقتحمه."
هذا، فإذا كان المفتي لم تتوافر لديه أدوات الاجتهاد وشروطه فهل له أن يتخير من أقوال فقهاء المذاهب ما يكون أيسر للناس؟
لا نزاع في أن المفتي إذا استطاع أن يميز بين الأدلة ويختار من فقه المذاهب المنقولة نقلا صحيحا على أساس الاستدلال كان له أن يتخير في فتواه ما يراه مناسبا، ولكن عليه أن يلتزم فى هذا بأربعة قيود:
الأول ألا يختار قولا ضعف سنده.
الثانى أن يختار ما فيه صلاح أمور الناس والسير بهم في الطريق الوسط دون إفراط أو تفريط.
الثالث أن يكون حسن القصد فيما يختار مبتغيا به رضا اللّه سبحانه متقيا غضبه، وغير مبتغ إرضاء حاكم أو هوى مستفت.
الرابع ألا يفتى بقولين معا على التخيير مخافة أن يحدث قولا ثالثا لم يقل به أحد.
¥