وقد جازى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم الجزاء الأوفى على جهاده في سبيله، فربط المسلمين إلى حرمه المدني ربطا محكما بحيث لا يهدأ لهم بال قبل الحج أو بعده إلا بعد أن يسلموا عليه مرات بعد مرات، ويصلوا في مسجده النبوي صلوات وصلوات، وتختلط أرواحهم بأرواح من صلوا فيه من صحابة وتابعين، وأئمة وصالحين، من عهده صلى الله عليه وسلم إلى الآن، فيرجعون إلى أوطانهم وهم أشد إيمانا وأكثر استعدادا للمحافظة على دينه والتضحية في سبيله مما كانوا.
10. أنه سيقف في اليوم الأول من أيام الآخرة موقفا عظيما يحمده عليه أهل السماوات وأهل الأرض، فيسجد بين يدي ربه جل جلاه سائلا الشفاعة لأبناء آدم كلهم، لا فرق بين مؤمنهم وكافرهم، لينجوا من الانتظار الذي يطول بهم في يوم يكون مقداره خمسين ألف سنة، ويفلتوا من العذاب الذي يصيبهم أثناء الانتظار بعد أن يطوف جمع من ممثليهم على الأنبياء والمرسلين طالبين منهم أن يشفعوا لهم عند ربهم، فيعتذرون قائلين: "إن ربنا قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، نفوسنا نفوسنا". أما هو صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها أنا لها"، فيتفضل عليه – سبحانه – بقوله بعد أن يسجد له: "ارفع رأسك، وسل تعطَ، واشفع تُشَفَّع". وهذه هي الشفاعة التي يغبطه عليها الأنبياء والمرسلون، وهذه هي عظمة العظمات؛ لأن نفعها يعم الثقلين.
والشهادة الثانية التي أداها جبريل – عليه السلام – في هذا الحديث الشريف: هي أن بني هاشم أفضل أبناء جميع الآباء، لأن كلمة "أب" نكرة، وهي من صيغ العموم.
قال الحكيم الترمذي رحمه الله: "إنما طاف جبريل الأرض ليطلب النفوس الطاهرة الصافية المتزكية بمحاسن الأخلاق، ولم ينظر للأعمال، لأنهم كانوا أهل جاهلية، إنما نظر إلى أخلاقهم فوجد الخير في هؤلاء، وجواهر النفوس متفاوتة بعيدة التفاوت".
ولله در الزرقاني حيث نقل عن بعض العلماء قوله: "والتفاضل في الأنساب والقبائل والبيوت باعتبار حسن خلقةِ الذات، والتفاضل فيما قام بها من الصفات حتى في الأقوال: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق}. [**/ **]. وهذا جازَ في سائر المخلوقات، فإن فضلَ الله يوتيه من يشاء".
فلا اتجاه لما عساه يقال: الإنسانُ كله نوع، فما معنى التفاضل في الأنساب؟. ولقد أعرب عن هذه الأفضلية خاتم الأنبياء نفسه، فقال: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم". رواه مسلم عن وائلة بن الأسقع رضي الله عنهما.
وقال: "إن الله اختار خلقه، فاختار منهم بني آدم، ثم اختار بني آدم فاختار منهم العرب، ثم اختارني من العرب، فلم أزل خيارا من خيار. ألا من أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضَهم". رواه الطبراني في "الأوسط" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ومعلوم أن الاصطفاء هو: الاختيار. وهو شرف عظيم خص الله به بني آدم، ثم العرب من كنانة؛ وهي: عدة قبائل أبوهم: كنانة بن خزيمة، ثم قريشا، ثم بني هاشم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وليس فضل العرب فقريش فبني هاشم بمجرد كون النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل. أي: باعتبار الأخلاق الكريمة والخصال الحميدة، واللسان العربي. قال: وبذلك يثبت للنبي صلى الله عليه وسلم أنه أفضل حسبا ونسبا".
ومعلوم أن هاشما هو الجد الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه: عمرو، وله مناقب كثيرة، أذكر منها ما يأتي:
- أنه مطعم قريش من الجوع عام المجاعة، لأنه لما اشتد الجوع بقومه نتيجة انحباس المطر عنهم، سافر إلى فلسطين فاشترى منها دقيقا كثيرا وكعكا، وقدم به مكة، فأمر به فخُبز، ثم نحر جزورا وجعلها ثريدا عن به أهل مكة، وبقي يفعل ذلك بهم حتى ذهب عنهم الجهد والشدة، فكان بذلك أول من هَشَم الثريد لقومه. ذكره الزرقاني في "شرح المواهب".
- أنه مؤسس مبدأ التعاون الوطني، من أجل موسم الحج، فقد كان يجمع قومه قبل موسم الحج، فيخطب فيهم قائلا: "يا معشر قريش؛ إنكم جيران الله وأهل بيته، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله وحجاج بيته وهم ضيف الله، وأحقُّ الضيف بالكرامة ضيفُه. فاجمعوا ما تصنعون لهم به طعاما أيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها، فإنه والله لو كان مالي يسع ذلك لكفيتكموه". فيخرجون لذلك خرجا من أموالهم، كل امريء يقدم ما عنده، فيصنع به للحجاج طعاما حتى يصدروا منها. ذكره ابن إسحاق في "السيرة". ومن أجل ذلك نعتوه بصاحب الرفادة. لأنه صاحب الفكرة والمنفذ له، والدال على الخير كفاعله.
- أنه أول من أوجد أسواقا خارجية لاقتصاد بلاده، وجلب لها الإنتاج الأجنبي بإحداثه – كما في سيرة ابن إسحاق – رحلة الشتاء ورحلة الصيف، التي امتن الله بهما في القرآن على أهل مكة، فكان بذلك أول رائد اقتصادي عرفته الأمة العربية قبل الإسلام.
ولقد كان أبناؤه أبطالها وحكامها، ونجومَ الاقتداء لها، وخدام الكعبة المكرمة، وملاجيء الوفود الوافدة عليها كل سنة، فسجلوا بذلك صفحات خالدة في تاريخ العرب كتبت بأحرف تبر على صفحات من نور.
أما حفيده الأعظم سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم؛ فقد ملئتْ الدواوين التي لا تعد ولا تحصى بتاريخه ومآثره، وأقواله وأفعاله، وتحدّث عنه الوجود بأسره في كل العصور حديثا مشوِّقا إلى علي جنابه. ولله در من قال:
ولو أن كل العالمين تألَّفوا===على مدحه؛ لم يبلغوا عشر واجب
ورُب سكوت كان فيه فصاحةٌ===ورُبَّ كلام فيه عُتْبٌ لعاتب
ورضي الله عن الحافظ ابن حجر العسقلاني حيث قال في هذا الحديث: "لوائح الصحة لا ئحة على صفحات هذا المتن. وصدق الله تعالى في قوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. [**/ **] ".
¥