الملك: "هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ ".
أبو سفيان: "لا".
الملك: "فهل يغدر؟ ".
أبو سفيان: "لا. ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها (يعني: هدنة الحديبية)، ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة".
الملك: "فهل قاتلتموه؟ ".
أبو سفيان: "نعم".
الملك: "فكيف كان قتالكم إياه؟ ".
أبو سفيان: "الحرب سجال بيننا وبينه – أي: نُوَب – ينال منا وننال منه".
الملك: "ما ذا يأمركم؟ ".
أبو سفيان: "يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم. ويأمرنا بالصلاة والصدق، والعفاف والصلة".
وقد أدلى الملك لأبي سفيان وأمام ذلك الجمع الحافل بتعليقات هامة أفادنا بها أبو سفيان بعد أن شرح الله صدره للإسلام وأصبح من القادة العسكريين الذين يوجههم النبي صلى الله عليه وسلم لنشر الإسلام وتركيز دعائمه في النفوس. وفيما يلي نصها الكامل:
"سألتك عن نسبه؟، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تُبعث في نسب قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟. فذكرت أن: لا. فقلت: لو كان أحد قال هذا قبله لقلت: رجل يأتي بقول قيل قبله. وسألتك: هل من آبائه من ملك؟. فذكرت أن: لا. قلت: فلو كان من آبائه من ملك؛ قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟. فذكرت أن: لا. فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله".
"وسألتك: أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟. فذكرتَ أن: ضعفاؤهم اتبعوه. وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟. فذكرتَ أنهم يزيدون. وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟. فذكرت أن: لا. وكذاك الإيمان؛ حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدر؟. فذكرت أن: لا. وكذاك الرسل لا تغدر". ولم يعرج هرقل على الدسيسة التي دسها أبو سفيان، لأنه علم الغاية منها.
"وسألتك: بما يأمركم؟. فذكرت أنه: يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. فإن كان ما تقول حقا؛ فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه؛ لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه" ...
وقد كانت أسئلة ملك الروم في منتهى الدقة والسمو، كما كانت تعليقاته على أجوبتها التي تلقاها من زعيم قريش هامة لدرجة كبيرة، حوت عمقا في التفكير، ومعرفة بالحقائق التي عرفتها البشرية قبل ذلك الوقت بقرون كثيرة، بفضل تعاليم السماء. وأصبحت مباديء قارة لا يعتريها تبديل ولا تغيير، وستبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض وممن عليها وهو خير الوارثين.
وقد استفدنا من هذا الحديث ما يأتي:
1 - النسب العظيم شرط ضروري لا بد منه في حق الأنبياء؛ لأنه يحول بين صاحبه وبين فعل كل مكروه. واعترافه بأن الرسل كلهم كانوا ذوي نسب. وقد استفاده من الكتب السماوية. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". رواه ميلم عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.
2 - شيوع الاقتداء بالمواطنين الأقدمين، وأقدمية فكرة المطالبة بملك الآباء.
3 - الاعتراف بأن أتباع الرسول يكونون من أهل الاستكانة لا من أهل الاستكبار الذين أصروا على الشقاق بغيا وحسدا.
4 - شناعة الاتهام بالكذب في المجتمع البشري، ونفي الكذب عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحق ما شهدت به الأعداء. والاستدلال على نفيه عنه أنه: ما كان ليترك الكذب على الخلق ويكذب على الخالق ...
5 - الاعتراف بأن أتباع الرسل يكونون في الغالب من ضعفاء الناس؛ لخلو أذهانهم من جميع مغريات الحياة التي تحول بينهم وبين الاعتراف بالحق، كما وقع لكثير من ذوي النسب الرفيع، والحسب الشهير، من زعماء قريش وصناديدها.
6 - الاعتراف بأن أمر الإيمان يظهر أولا، ثم لا يزال في زيادة حتى يتم بالأمور المعتبرة فيه؛ من صلاة وزكاة، وصيام وحج .. وغيرها من تعاليم الدين.
7 - الاعتراف بأن حلاوة الإيمان لا يمكن أن تدخل إلى قلب ثم تخرج منه، والتاريخ القديم والحديث يؤيد ما قاله هرقل. أما الذين يكرَهون على الكفر من طرف رؤسائهم ومواطنيهم، وقلوبهم مطمئنة بالإيمان؛ فلا حرج عليهم.
¥