فأسند إليه – أولا – مهمة التعريف بباريء الكون الذي لا يستحق العبادة غيره كائنا من كان، وهو: الله في السماوات وفي الأرض، لا شبيه له في ذاته وصفاته وأفعاله، ليس كمثله شيء، وهو القاهر فوق عباده، الكثير الحكمة، الذي يضع كل شيء في موضعه، الكثير العلم؛ لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. لا يسأل عما يفعل}. [**/ **]، {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}. [**/ **].
وأسند إليه ثانيا: التعريف بملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، حلوه ومره.
وأسند إليه ثالثا: وضع قوانين دينية وسياسية، ومدنية وجنائية، واقتصادية واجتماعية وعسكرية، غير خاصة بالقرن السابع للميلاد الذي بعث فيه، بلعامة لجميع البشر في جميع الأزمنة والأمكنة. قال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا}. [**/ **]، وقال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. [**/ **].
وهي منة كبرى على البشرية نقلتها من الطور المحلي والإقليمي والوطني إلى الطور الإنساني العالمي، المسترسل إلى آخر يوم من الدنيا، وهي – أيضا – مهمة عظمى لا يقدر عليها إلا من جمع جميع أوصاف الكمال البشري.
وقد فصل القوانين التي أتى بها الرسول الخاتم، صاحب كتاب "نظام الحكومة النبوية" في مجلدين ضخمين، [وهو عم والدنا حافظ المغرب الشيخ عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني]، ويسرني أن أثبت قوله – رحمه الله – في المقدمة:
"ومن عرف نهضة افسلام وتعاليم النبي عليه السلام، وأمعن النظر في تلك النهضة؛ تحقق أن ليس هناك من أساليب التمدن ما لم يكن الإسلام في وقت ظهوره أصلا له وينبوعا".
"فمن تأمل ما بثه النبي صلى الله عليه وسلم من التعاليم وأنواع الإرشاد، وما حوى القرآن من آداب الاجتماع، وسن من طرق التعارف والتمازج، وما أودع الله غضون كلماته الجوهرية من أحكام الطبيعة وأسرار الوجود، وفرائد الكائنات، وما ضبط من الحقوق وسن من نظامات الحياة".
"وما تلته به السنة النبوية من تهذيب النفوس والأخلاق، والإرشاد للأخذ بالأحسن فالأحسن، وأحكمته من سنن الارتقاء زوالإخاء البشري، والتمتع بضروب الحرية ... ".
"علم أن التمدن الإسلامي في إبان ظهوره قامت معه تلك الأعمال لتأثير تلك التعاليم على قلوب سامعيها في ذلك الحين".
"نعم؛ لا ننكر أن التمدن الإسلامي جرى مجرى النشوء الطبيعي في كل شيء، وسار سيرا تدريجيا إلى أن وصل إلى أوجه في السمو. فمن لم يتأمل ذلك؛ [لم] يحط نظرا في الموضوع بما له وعليه، لا بد أن يغيب عن علمه ما بلغته الإدارات والعمالات والصناعاة والتجارة في تلك العشر سنوات التي قضاها صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعد الهجرة النبوية. وأن الترقي والعمران وصل فيها إلى أحد ما يعرف من الوظائف اليوم في إدارة الكتابة والحساب والقضاء، والحرب والصحة ... ونحو ذلك" ...
وكانت البعثة النبوية رفعا من شأن البشرية، واعترافا بنضجها واستحقاقها لرسالة عامة واحدة، وتشريفا للأمة العربية ليس بعده تشريف، حيث أسند الله إليها مهمة التبشير بهذا الدين الجديد، وحمل مشعله إلى جميع أرجاء الدنيا. وصدق الله في قوله: {وإنه لذكر لك ولقومك}. [**/ **].
واستجابة لدعاء أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام وهو يبني الكعبة، حيث قال: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم}. [**/ **].
أوقف سيدنا محمد حياته على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة من مكة، واستعان بالسيف في المدينة المنورة على نشر دعوته، وإقامة كيان دولته، ورد هجوم أعدائه وإبطال مؤامراتهم، امتثالا لقوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله لعلى نصرهم لقدير}. [**/ **].
وأتى البشرية بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، جمع معاني الكتب السماوية كلها، وجعل لكل شيء قدرا، ومجد أعمال العاملين، ووعدهم بالجزاء في الدنيا وفي الآخرة:
في الدنيا: بالسعادة الدينية والدنيوية، وامتداد أعمارهم، وحفظهم من الكوارث، والتمتع بحواسهم، والاستفادة من مواهبهم، وتكثير مسارهم.
وفي الجنة: بضمان الخلود فيها؛ وهي: جنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للمتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
¥