الأولى: أن صوم يوم عاشوراء كان في أول الأمر فرضا , و ذلك ظاهر في الاهتمام به الوارد فيه , و المتمثل في إعلان الأمر بصيامه , و الإمساك عن الطعام لمن كان أكل فيه , و أمره بصيام بقية يومه , فإن صوم التطوع لا يتصور فيه إمساك بعد الفطر كما قال ابن القيم رحمه الله في " تهذيب السنن " (3/ 327). و هناك أحاديث أخرى تؤكد أنه كان فرضا , و أنه لما فرض صيام شهر رمضان كان هو الفريضة كما في حديث عائشة عند الشيخين و غيرهما , و هو مخرج في " صحيح أبي داود " برقم (2110).
و الأخرى: أن من وجب عليه الصوم نهارا , كالمجنون يفيق , و الصبي يحتلم , و الكافر يسلم , و كمن بلغه الخبر بأن هلال رمضان رؤي البارحة , فهؤلاء يجزيهم النية من النهار حين الوجوب , و لو بعد أن أكلوا أو شربوا , فتكون هذه الحالة مستثناة من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " , و هو حديث صحيح كما حققته في " صحيح أبي داود " (2118).
و إلى هذا الذي أفاده حديث الترجمة ذهب ابن حزم و ابن تيمية و الشوكاني و غيرهم من المحققين.
فإن قيل: الحديث ورد في صوم عاشوراء و الدعوى أعم.
قلت: نعم , و ذلك بجامع الاشتراك في الفريضة , ألست ترى أن الحنفية استدلوا به على جواز صوم رمضان بنية من النهار , مع إمكان النية في الليل طبقا لحديث أبي داود , فالاستدلال به لما قلنا أولى كما لا يخفى على أولي النهى.
و لذلك قال المحقق أبو الحسن السندي في حاشيته على " ابن ماجه " (1/ 528 - 529) ما مختصره: " الأحاديث دالة على أن صوم يوم عاشوراء كان فرضا , من جملتها هذا الحديث , فإن هذا الاهتمام يقتضي الافتراض. نعم الافتراض منسوخ بالاتفاق و شهادة الأحاديث على النسخ.
و استدل به على جواز صوم الفرض بنية من النهار , لا يقال صوم عاشوراء منسوخ فلا يصح الاستدلال به. لأنا نقول: دل الحديث على شيئين: أحدهما: وجوب صوم عاشوراء.
و الثاني: أن الصوم واجب في يوم بنية من نهار , و المنسوخ هو الأول , و لا يلزم من نسخه نسخ الثاني , و لا دليل على نسخه أيضا.
بقي فيه بحث: و هو أن الحديث يقتضي أن وجوب الصوم عليهم ما كان معلوما من الليل , و إنما علم من النهار , و حينئذ صار اعتبار النية من النهار في حقهم ضروريا , كما إذا شهد الشهود بالهلال يوم الشك , فلا يلزم جواز الصوم بنية من النهار بلا ضرورة " أهـ.
قلت: و هذا هو الحق الذي به تجتمع النصوص , و هو خلاصة ما قال ابن حزم رحمه الله في " المحلى " (6/ 166) و قال عقبه:
" و به قال جماعة من السلف كما روينا من طريق ... عبد الكريم الجزري أن قوما شهدوا على الهلال بعد ما أصبح الناس , فقال عمر بن عبد العزيز: من أكل فليمسك عن الطعام , و من لم يأكل فليصم بقية يومه ".
قلت: و أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (3/ 69) و سنده صحيح على شرط الشيخين.
و هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية , فقال في " الاختيارات العلمية " (4/ 63 - الكردي):
" و يصح صوم الفرض بنية النهار إذا لم يعلم وجوبه بالليل , كما إذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار , فإنه يتم بقية يومه و لا يلزمه قضاء و إن كان أكل "
و تبعه على ذلك المحقق ابن القيم , و الشوكاني , فمن شاء زيادة بيان و تفصيل فليراجع " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (25/ 109 و 117 - 118) و " زاد المعاد " لابن القيم (1/ 235) و " تهذيب السنن " له (3/ 328) و " نيل الأوطار " للشوكاني (4/ 167).
و إذا تبين ما ذكرنا , فإنه تزول مشكلة كبرى من مشاكل المسلمين اليوم , ألا و هي اختلافهم في إثبات هلال رمضان بسبب اختلاف المطالع , فإن من المعلوم أن الهلال حين يرى في مكان فليس من الممكن أن يرى في كل مكان , كما إذا رؤي في المغرب فإنه لا يمكن أن يرى في المشرق , و إذا كان الراجح عند العلماء أن حديث " صوموا لرؤيته ... " إنما هو على عمومه , و أنه لا يصح تقييده باختلاف المطالع , لأن هذه المطالع غير محدودة و لا معينة , لا شرعا و لا قدرا , فالتقييد بمثله لا يصح , و بناء على ذلك فمن الممكن اليوم تبليغ الرؤية إلى كل البلاد الإسلامية بواسطة الإذاعة و نحوها , و حينئذ فعلى كل من بلغته الرؤية أن يصوم , و لو بلغته قبل غروب الشمس بقليل , و لا قضاء
¥