إذا عرفت هذا التفصيل , و أن الحديث من رواية ابن أبي ذئب عنه , تبينت أنه ثابت , فلا تعويل على من ذهب إلى تضعيفه متمسكا بالطعن المجمل فيه كما فعل البيهقي , و نحوه عن الإمام أحمد , فقال ابنه عبد الله في "مسائله" (ص125): "سألت أبي عن حديث أبي هريرة هذا ? فقال: حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل ابن بيضاء في المسجد". ثم قال: حتى يثبت حديث صالح مولى التوأمة. كأنه عنده ليس بثبت , أو ليس بصحيح".
قلت: و لعل الإمام أحمد رحمه الله توقف عن تصحيح هذا الحديث لأنه لم يكن يومئذ تبين له التفصيل الذي نقلته عنه آنفا , أو أنه ظن أنه معارض لحديث عائشة المذكور , و هو دونه في الصحة بلا ريب. و الذي أراه أنه لا ينبغي عند نقد الحديث أن يلاحظ الناقد أمورا فقهية يتوهم أنها تعارض الحديث , فيتخذ ذلك حجة للطعن في الحديث , فإن هذا - مع كونه ليس من قواعد علم الحديث - لو اعتمد عليه في النقد للزم منه رد كثير من الأحاديث الصحيحة التي وردت بالطرق القوية. وعلى هذا فكون حديث صالح مخالفا لحديث عائشة , فلا ينبغي الطعن فيه بسبب ذلك , بل ينبغي التوفيق بينهما بعد ثبوت كل منهما من الوجهة الحديثية , كما قرره الحافظ في "شرح النخبة" و غيره في غيره , و لذلك قال الإمام ابن قيم الجوزية في "زاد المعاد" (1/ 198 - 199) بعد أن ذكر بعض ما قيل في صالح هذا: "و هذا الحديث حسن , فإنه من رواية ابن أبي ذئب عنه و سماعه منه قديم قبل اختلاطه , فلا يكون اختلاطه موجبا لرد ما حدث به قبل الاختلاط".
هذا , و أحسن ما يمكن أن يقال في سبيل التوفيق المشار إليه آنفا هو أن حديث عائشة غاية ما يدلي عليه إنما هو جواز صلاة الجنازة في المسجد , و حديث صالح لا ينافي ذلك , لأنه لا ينفي أجر الصلاة على الجنازة مطلقا , و إنما ينفي أجرا خاصا بصلاتها في المسجد , قال أبو الحسن السندي رحمه الله تعالى: "فالحديث لبيان أن صلاة الجنازة في المسجد ليس لها أجر لأجل كونها في المسجد كما في المكتوبات , فأجر أصل الصلاة باق , و إنما الحديث لإفادة سلب الأجر بواسطة ما يتوهم من أنها في المسجد , فيكون الحديث مفيدا لإباحة الصلاة في المسجد من غير أن يكون لها بذلك فضيلة زائدة على كونها خارجة. و ينبغي أن يتعين هذا الاحتمال دفعا للتعارض و توفيقا بين الأدلة بحسب الإمكان. و على هذا , فالقول بكراهة الصلاة في المسجد مشكل , نعم ينبغي أن يكون الأفضل خارج المسجد بناء على أن الغالب أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي خارج المسجد , و فعله في المسجد كان مرة أو مرتين. و الله أعلم ". قلت: و بهذا الجمع , التقى حديث الترجمة مع حديث عائشة من حيث دلالة كل منهما على إباحة الصلاة في المسجد , و أما كون الأفضل الصلاة خارج المسجد , فهذا أمر لا يشك فيه من تجرد عن الهوى و التعصب المذهبي , لثبوت كون ذلك هو الغالب على هديه صلى الله عليه وسلم كما بينته في "أحكام الجنائز" (ص106 - 107) , فلا التفات بعد هذا البيان إلى قول ابن حبان في " الضعفاء" (1/ 366): "و هذا خبر باطل , كيف يخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن المصلي في الجنازة لا شيء له من الأجر , ثم يصلي هو صلى الله عليه وسلم على سهيل ابن البيضاء في المسجد؟ "!!
(تنبيه): ذكر الزيلعي أن ابن أبي شيبة روى الحديث في "مصنفه" بلفظ: "فلا صلاة له"! و لم أر هذا اللفظ عنده , و إنما رواه بلفظ: "فلا شيء له" , كما سبقت الإشارة إليه في صدر هذا التخريج , فاقتضى التنبيه.
صلاح وفساد القلب معنويان وليس ماديان
2708 - (إن في ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح سائر جسده و إذا فسدت فسد سائر جسده , ألا و هي القلب).
كان الحامل على تخريج حديث الترجمة هنا أمرين:
الأول: أنني رأيت الحديث في " النهاية " بلفظ الترجمة , أورده في مادة (مضغ) مفسرا إياه بقوله: " يعني القلب لأنه قطعة لحم من الجسد ". فخشيت أن يكون غير محفوظ , لأن الثابت المعروف في الصحيحين و غيرهما إنما هو بلفظ " الجسد " كما تقدم , فتتبعت روايات الحديث في دواوين السنة حتى وجدت الحديث في " المسند " بلفظ الإنسان " , و هو شاهد قوي لحديث الترجمة , و بمعناه لفظ " الشيخين ": الجسد " , خلافا لأحد الأطباء المعاصرين كما يأتي بيانه.
¥