و أقول: تعليلهم النهي عن بيعتين في بيعة بجهالة الثمن , مردود لأنه مجرد رأي مقابل النص الصريح في حديث أبي هريرة و ابن مسعود أنه الربا. هذا من جهة.و من جهة أخرى أن هذا التعليل مبني على القول بوجوب الإيجاب و القبول في البيوع , و هذا مما لا دليل عليه في كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , بل يكفي في ذلك التراضي و طيب النفس , فما أشعر بهما و دل عليهما فهو البيع الشرعي و هو المعروف عند بعضهم ببيع المعاطاة " , قال الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 126): "و هذه المعطاة التي تحقق معها التراضي و طيبة النفس هي البيع الشرعي الذي أذن الله به , و الزيادة عليه هي من إيجاب ما لم يوجبه الشرع". و قد شرح ذلك شيخ الإسلام في "الفتاوي" (29/ 5 - 21) بما لا مزيد عليه , فليرجع إليه من أراد التوسع فيه.
قلت: و إذا كان كذلك , فالشاري حين ينصرف بما اشتراه , فإما أن ينقد الثمن , و إما أن يؤجل , فالبيع في الصورة الأولى صحيح , و في الصورة الأخرى ينصرف و عليه ثمن الأجل -و هو موضع الخلاف- فأين الجهالة المدعاة ? و بخاصة إذا كان الدفع على أقساط , فالقسط الأول يدفع نقدا , و الباقي أقساط حسب الاتفاق. فبطلت علة الجهالة أثرا و نظرا.
3 - دليل القول الثالث حديث الترجمة و حديث ابن مسعود , فإنهما متفقان على أن "بيعتين في بيعة ربا" , فإذن الربا هو العلة , و حينئذ فالنهي يدور مع العلة وجودا و عدما , فإذا أخذ أعلى الثمنين , فهو ربا , و إذا أخذ أقلهما فهو جائز كما تقدم عن العلماء الذين نصوا أنه يجوز أن يأخذ بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين , فإنه بذلك لا يكون قد باع بيعتين في بيعة , ألا ترى أنه إذا باع السلعة بسعر يومه , و خير الشاري بين أن يدفع الثمن نقدا أو نسيئة أنه لا يصدق عليه أنه باع بيعتين في بيعة كما هو ظاهر , و ذلك ما نص عليه صلى الله عليه وسلم في قوله المتقدم: "فله أوكسهما أو الربا" , فصحح البيع لذهاب العلة , و أبطل الزيادة لأنها ربا , و هو قول طاووس و الثوري و الأوزاعي رحمهم الله تعالى كما سبق. و منه تعلم سقوط قول الخطابي في "معالم السنن" (5/ 97): "لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث , و صحح البيع بأوكس الثمنين , إلا شيء يحكى عن الأوزاعي , و هو مذهب فاسد , و ذلك لما تتضمنه هذه العقدة من الغرر و الجهل".
قلت: يعني الجهل بالثمن كما تقدم عنه و قد علمت مما سلف أن قوله هو الفاسد لأنه أقامه على علة لا أصل لها في الشرع , بينما قول الأوزاعي قائم على نص الشارع كما تقدم , و لهذا تعقبه الشوكاني بقول في "نيل الأوطار" (5/ 129): "و لا يخفى أن ما قاله الأوزاعي هو ظاهر الحديث لأن الحكم له بالأوكس يستلزم صحة البيع".
قلت: الخطابي نفسه قد ذكر أن الأوزاعي قال بظاهر الحديث , فلا فرق بينه و بين الخطابي من هذه الحيثية إلا أن الخطابي تجرأ في الخروج عن هذا الظاهر و مخالفته لمجرد علة الجهالة التي قالوها برأيهم خلافا للحديث. و العجيب حقا أن الشوكاني تابعهم في ذلك بقوله: "و العلة في تحريم بيعتين في بيعة عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين .. ". و ذلك لأن هذه المتابعة تتماشى مع الذين يوجبون الإيجاب و القبول في البيوع , و الشوكاني يخالفهم في ذلك , و يقول بصحة بيع المعاطاة , و في هذه الصورة (أعني المعطاة) الاستقرار متحقق كما بينته آنفا. ثم إنه يبدو أن الشوكاني -كالخطابي - لم يقف على من قال بظاهر الحديث - كالأوزاعي - , و إلا لما سكت على ما أفاده كلام الخطابي من تفرد الأوزاعي , و قد روينا لك بالسند الصحيح سلفه في ذلك - و هو التابعي الجليل طاووس - و موافقة الإمام الثوري له , و تبعهم الحافظ ابن حبان , فقال في "صحيحه" (7/ 226): "ذكر البيان بأن المشتري إذا اشترى بيعتين في بيعة على ما وصفنا و أراد مجانبة الربا كان له أوكسهما". ثم ذكر حديث الترجمة , فهذا مطابق لما سبق من أقوال أولئك الأئمة , فليس الأوزاعي وحده الذي قال بهذا الحديث.
أقول هذا بيانا للواقع , و لكي لا يقول بعض ذوي الأهواء أو من لا علم عنده , فيزعم أن مذهب الأوزاعي هذا شاذ! و إلا فلسنا - و الحمد لله - من الذين لا يعرفون الحق إلا بكثرة القائلين به من الرجال , و إنما بالحق نعرف الرجال.
¥