و أما المخالفة فهي على العكس من ذلك تماما فإنها تعني أن يفعل المسلم فعلا لا يفعله الكافر , إذا لم يكن في فعله مخالفة للشرع , كمثل الصلاة في النعال , فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها مخالفة لليهود , و قد تكون المخالفة لهم فيما هو من خلق الله في كل البشر لا فرق في ذلك بين مسلم و كافر , و رجل و امرأة , كالشيب مثلا , و مع ذلك أمر بصبغه مخالفة لهم كما تقدم , و هذا أبلغ ما يكون من الأمر بالمخالفة , فعلى المسلم الحريص على دينه أن يراعي ذلك في كل شؤون حياته , فإنه بذلك ينجو من أن يقع في مخالفة الأمر بالمخالفة , فضلا عن نجاته من التشبه بالكفار , الذي هو الداء العضال في عصرنا هذا. و الله المستعان.
الايات المنسوخة
2907 - (لو كان لابن آدم واديان من مال (و في رواية: من ذهب) لابتغى [واديا] ثالثا , و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب , و يتوب الله على من تاب).
أقول: هذا حديث صحيح متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم , رواه عنه جماعة من أصحابه بألفاظ متقاربة , و قد خرجته عن جماعة منهم في " تخريج أحاديث مشكلة الفقر " (18/ 14) منهم أنس عند الشيخين , و قد أخرجاه عن ابن عباس أيضا , و منهم ابن الزبير عند البخاري , و أبو موسى عند مسلم و غيره , و يأتي لفظه , و غيرهم , و عددهم نحو عشرة , و في الباب عن غيرهم تجد تخريجها في " مجمع الزوائد " (7/ 140 - 141 و 10/ 243 - 245) و يأتي تخريج بعضها مع سوق ألفاظها المناسبة لما أنا متوجه إليه الآن , و هو تحرير القول في الروايات المختلفة في حديث الترجمة:
هل هو حديث نبوي , أو حديث قدسي , أو قرآن منسوخ التلاوة؟
فأول ما يواجه الباحث و يلفت نظره للتحري ثلاثة أخبار عن الصحابة:
الأول: قول ابن عباس في رواية عنه عقب حديثه المشار؟ إليه آنفا: " فلا أدري من القرآن هو أم لا؟ ".
الثاني: قول أنس نحوه في رواية لمسلم و أحمد.
الثالث: قول أبي بن كعب من رواية أنس عنه قال: " كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت * (ألهاكم التكاثر) * ".
أخرجه البخاري (6440) و الطحاوي في " مشكل الآثار " (2/ 420).
و لا يخفى على البصير أن القولين الأولين لا يدلان على شيء مما سبقت الإشارة إليه , لأنه اعتراف صريح بعدم العلم , و لكنه مع ذلك فيه إشعار قوي بأنه كان من المعلوم لدى الصحابة أن هناك شيئا من القرآن رفع و نسخ , و لذلك لم يكتب في المصحف المحفوظ , فتأمل هذا , فإنه يساعدك على فهم الحقيقة الآتي بيانها.
و أما قول أبي: " كنا نرى .. " , فهو يختلف عن القولين الأولين , من جهة أنه كان الحديث المذكور أعلاه من القرآن , إما ظنا غالبا راجحا , و إما اعتقادا جازما , ذلك ما يدل عليه قوله: " نرى " , قال الحافظ (11/ 257): " بضم النون - أوله - أي نظن , و يجوز فتحها , من (الرأي) أي نعتقد ".
قلت: و الثاني هو الراجح عندي , بل الصواب الذي لا يجوز سواه لما سيأتي عنه و عن غيره من الصحابة الجزم به.
و لا ينافيه قوله: " حتى نزلت * (ألهاكم التكاثر) * " , لأنه يعني: فنسخت هذه تلك.
إذا عرفت هذا فإليك الآن الأحاديث المؤكدة لما دل عليه حديث أبي هذا: أن قوله: " لو كان لابن آدم واديان .. " إلخ كان قرآنا يتلى , ثم رفع و نسخ.
الحديث الأول: عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:
2908 - (إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن. فقرأ عليه: * (لم يكن الذين كفروا) * , و قرأ فيها: " إن ذات الدين الحنيفية المسلمة , لا اليهودية و لا النصرانية و لا المجوسية , من يعمل خيرا فلن يكفره ". و قرأ عليه: " لو أن لابن آدم واديا من مال لابتغى إليه ثانيا , و لو كان له ثانيا لابتغى إليه ثالثا .. " إلخ [قال: ثم ختمها بما بقي منها]).
الحديث الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنه قال:
¥