وله شاهدا آخر أصح منه و أتم من حديث أنس. و فيه قوله صلى الله عليه وسلم: " الأيمن فالأيمن ". رواه الشيخان و غيرهما , و قد سبق تخريجه برقم (1771).
ففي هذا نص على أن الساقي يبدأ بمن عن يمينه , و ليس بكبير القوم , أو أعلمهم , أو أفضلهم , و على ذلك جرى السلف الصالح كما تراه في " مصنف ابن أبي شيبة " (8/ 223). و قد روى هو و مسلم و عبد الرزاق و الحميدي في حديث أنس المشار إليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما شرب: كان عن يمينه أعرابي و عن يساره أبو بكر , و عمر تجاهه , فقال: يا رسول الله! أعط أبا بكر , و خشي أن يعطي الأعرابي , فأبى صلى الله عليه وسلم و أعطى الأعرابي , و قال: الحديث.
و في رواية لمسلم: و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأيمنون , الأيمنون , الأيمنون ". قال أنس: فهي سنة , فهي سنة , و هي سنة.
فأقول: فمن الغرائب أن يصر كثير من الأفاضل على مخالفة هذه السنة , بل هذا الأدب الاجتماعي الذي تفرد الإسلام به - في مجالسهم الخاصة - , حيث لا يخشى أن يقع أي محظور في العمل بها سوى مخالفة عادة الآباء و الأجداد! و لقد كان إعراضهم عن هذه السنة الصحيحة اعتمادا منهم على تلك الفلسفة التي نفيتها آنفا - سببا لمخالفتهم هم أنفسهم إياها , حين لم يلتزموها عمليا , فصار الساقي يبدأ - على علم منهم - بأكابرهم و أمرائهم , و لو كانت فلسفتهم لا تنطبق عليهم! و أنا حين أقول هذا - أعلم أنهم إنما يصرون على هذه المخالفة من باب الحكمة و السياسة و المداراة , و أنهم لا يملكون غير ذلك لفساد النفوس و الأخلاق.
و لكني أقول: لو أنهم التزموا العمل بهذه السنة في مجالسهم الخاصة , و حضرها أحد أولئك الأمراء لانقلب الأمر و لاضطر هؤلاء إلى أن يسايسوا أهل المجلس , و لاسيما و هم من الساسة! و لما طمعوا أن يعاملوا بخلاف السنة , ثم لانتشرت هذه إلى مجالس الساسة الخاصة! و يشبه هذه المسألة إيجابا و سلبا مسألة القيام للداخل , فلما تركت هذه السنة بدعوى الاحترام و الإكرام لأهل العلم و الفضل , تحول ذلك مع الزمن إلى القيام لمن ليس في العير و لا النفير كما يقال , بل إلى القيام للفساق و الفجار. بل و لأعداء الله! فهل من معتبر ?!.
أما صلاته صلى الله عليه وسلم في نعليه الوارد في آخر حديث الترجمة فله شواهد كثيرة تبلغ مبلغ التواتر في " الصحيحين " , و غيرهما , و بعضها مخرج في " صحيح أبي داود " (657 و 658 و 659 و 660).
ليس للجار أن يمنع جاره من الوضع
2947 - (" من بنى بناء فليدعمه حائط جاره. و في لفظ: من سأله جاره أن يدعم على حائطه فليدعه).
قد اختلف العلماء في الأمر المذكور في الحديث هل هو للوجوب أو الندب , و قد أطال الكلام فيه كثير من العلماء كأبي جعفر الطحاوي و ابن جرير الطبري و ابن حجر العسقلاني و غيرهم , و ذهب إلى الوجوب الإمام أحمد و غيره , و مذهب الجمهور الاستحباب و إلى هذا مال الطبري في أول بحثه , و أطال النفس و المناقشة فيه.
و لكنه انتهى في آخره إلى أنه ليس للجار أن يمنع جاره من الوضع , قال (ص 796 - 797): " فهو بتقدمه على ما نهاه عنه عليه السلام من ذلك لله عاص , و لنهي نبيه صلى الله عليه وسلم مخالف , من غير أن يكون ذلك لجاره الممنوع منه حقا يلزم الحكام الحكم به على المانع , أحب المانع ذلك أو سخط ".
فأقول: و هذا الذي انتهى إليه الإمام الطبري هو الصواب إن شاء الله تعالى , إلا ما ذكره في الحكام , فأرى أن يترك ذلك للقضاء الشرعي يحكم بما يناسب الحال و الزمان , فقد وصل الحال ببعض الناس إلى وضع لا يطاق من الأنانية و الاستبداد و منع الارتفاق , بسبب القوانين الوضعية القائمة على المصالح المادية دون المبادىء الخلقية , فقد حدثني ثقة أنه لما استعد لبناء داره في أرضه رمى مواد البناء في أرض بوار بجانبه , فمنعه من ذلك صاحبها , و ساعده القانون على ذلك و لم يتمكن من متابعة البناء إلا بعد أن دفع لهذا الظالم الجشع من الدنانير ما أسكته , و أسقط الدعوى التي كان أقامها على الباني! مع أنه من كبار الأغنياء , و صدق الله: * (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) * , و لا ينفع في مثل هذا الطاغي إلا مثل ما فعل الأنصار في مثله , و هو ما رواه البيهقي في " سننه " (6/ 69) من طريق
¥