- وبما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاء بتمر جنيب (38)، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أكلّ تمر خيبر هكذا؟ " قال: لا والله يا رسول الله إنّا لنأخذ الصاع منه بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تفعل، بعِ الجَمْعَ بالدّراهم ثمّ ابتع بالدّراهم جنيبا" (39).
وجه دلالة الحديثين: أنّهما يدلاّن بعمومهما في قوله صلى الله عليه وسلم: "فبع التمر ... " و"بع الجمع" على صحّة بيع العينة وجوازها، لأنّ من اشترى منه التمر الرديء هو نفس من باع عليه التمر الطيّب، فرجعت دراهمه إليه، ولم يفصّل في مقام الاحتمال بين أن يبيعه ممّن باعه أو من غيره، ولم يفصّل –أيضا- بين أن يكون القصد التوصّل إلى شراء الأكثر أو لا، فدلّ ذلك على صحة البيع مطلقاً سواء من البائع أو من المشتري، لأنّ ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
ومن ناحية أخرى فإنّهما يدلاّن –أيضاً- على جواز الذرائع من أجل ترك التفصيل في البائع والمبتاع والأكثر والأقلّ (40).
· أمّا الإجماع:
فاستدلّوا على قيامه بجواز البيع من البائع بعد فترة من غير قصد التوصّل إلى الرجوع بالزيادة عليه، لأنّه لو قال: "أبيعك هذه الدراهم بدراهم مثلها وأمهلك شهرا" فهو غير جائز، بخلاف ما لو قال: "أسلفني دراهم وانظرني بها شهرا" جاز، ولا فرق بين الصورتين إلاّ اختلاف لفظ البيع وقصده ولفظ القرض وقصده (41).
هذا، وقد اعتذر الشافعية والظاهرية عن الأخذ بأحاديث المانعين بالأعذار التالية:
1 - بخصوص حديث ابن عمر: فقد أجابوا عنه من ناحيتين:
الناحية الأولى: من حيث سند الحديث
يرى هؤلاء أنّ حديث ابن عمر في التبايع بالعينة ضعيف لا يحتجّ به، لأنّ في إسناده إسحاق بن أسيد أبا عبد الرحمن الخراساني، نزيل مصر لا يحتجّ به، وفيه -أيضاً- عطاء الخراساني وفيه مقال كما جاء في "مختصر السنن" للمنذري (42)، قال الذهبي: "هذا الحديث من مناكيره" (43)، وقال الحافظ في "بلوغ المرام": "وفي إسناده مقال، ولأحمد نحوه من رواية عطاء ورجاله ثقات وصححه ابن القطّان" (44)، ثمّ قال في "التلخيص": "وعندي أنّ إسناد الحديث الذي صحّحه ابن القطّان معلول، لأنّه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحاً، لأنّ الأعمش مدلّس، ولم يذكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر (45).
الناحية الثانية: من حيث متن الحديث
فإنّ دلالة الحديث على التحريم من هذه الناحية غير جلية من وجهين:
- الأول: إنّ اقتران بيع العينة بأخذ أذناب البقر والاشتغال بالزرع مع أنّ هذه المذكورات غير محرّمة فدلّ ذلك على أنّ بيع العينة ليس محرّماً.
- الثاني: إنّ الحديث توعّد عليه بالذلّ، وهذا التوعّد لا يقتضي تحريماً
2 - بخصوص حديث أبي هريرة: فقد تأوّله الشافعي بتأويلين:
- أحدهما: أن يقول: "بعتك بألفين نسيئة وبألف نقدا، فأيّهما شئت أخذت به"، وهذا بيع فاسد لأنّه إبهام وتعليق
- والثاني: أن يقول "بعتك عبدي على أن تبيعني فرسك" (46).
وعلى هذا، فتفسير الشرطين في بيع أو البيعتين في بيعة بأنّه بيع العينة فغير متعيّن.
3 - وفيما يتعلّق بحديث الأوزاعي: فهو حديث مرسل لا تقوم به حجّة، ولا يقوى على معارضة عموم النصوص القاضية بالجواز.
4 - بخصوص حديث العالية بنت أنفع: يردّ القائلون بجواز بيع العينة على حديث العالية من جهتين:
الجهة الأولى: حالة عدم التسليم بصحة الحديث
- فقد ضعّف هؤلاء حديثها سندا ومتناً.
- أمّا من حيث السند، قال ابن حزم: "إن امرأة أبي إسحاق مجهولة الحال، لم يَرو عنها أحد غير زوجها وولدها يونس، على أنّ يونس قد ضعّفه شعبة بأقبح التضعيف، وضعّفه يحي القطّان وأحمد ابن حنبل جدّا (47)، وردّه الشافعي من أجل امرأة أبي إسحاق (48).
¥