- أمّا من حيث المتن فإنّه يبعد أن تحكم عائشة -رضي الله عنها- ببطلان جهاد زيد بن أرقم مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أمر اجتهد فيه واعتقد حلّه، قال ابن حزم –بعد ذكر منقبة زيد-: "فوالله ما يُبطل هذا كلّه ذنب من الذنوب غير الردّة عن الإسلام فقط، وقد أعاذه الله تعالى منها برضاه عنه، وأعاذ أمّ المؤمنين من أن تقول هذا الباطل" (49).
قال الشافعي: "وجملة هذا أنّا لا نثبت مثله على عائشة مع أنّ زيد ابن أرقم لا يبيع إلاّ ما يراه حلالا ولا يبتاع مثله، فلو أنّ رجلا باع شيئا أو ابتاعه نراه نحن حراما وهو يراه حلالا لم نزعم أنّ الله يحبط عمله شيئا" (50).
الجهة الثانية: حالة التسليم بصحّة الحديث
وعلى فرض صحّة الحديث والتسليم بثبوته فليس فيه حجة لوجوه:
- يستعبد أن يكون قول عائشة -رضي الله عنها- توقيفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لافتقاره إلى دليل، ولا يكفي رفعه بالرأي، ولأنه لو كان مثل هذا خبرا فلا تكتمه عائشة وتخفيه عن الناس (51)، وعلى فرض صحته، فغاية ما فيه أنّه اجتهاد منها، وهو مخالف للنصوص العامّة القاضية بجوازه.
- إنّ قول عائشة ليس بأولى من قول زيد، وهو صحابي ومعه القياس، وقول الصحابي ليس بحجة على صحابي آخر، قال الشافعي: "لو اختلف بعض أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم في شيء، فقال بعضهم فيه شيئا، وقال بعضهم بخلافه، كان أصل ما نذهب إليه أنّا نأخذ بقول الذي معه القياس، والذي معه القياس زيد بن أرقم" (52)، وقال: "إذا اختلفوا فمذهبنا القياس والقياس مع زيد" (53).
- ويحتمل أن تكون عائشة عابت البيع إلى العطاء لأنّه أجل غير معلوم يدخله الغرر.
5 - أمّا الاستدلال بالآثار، فقد تمثل اعتذارهم فيها بما يلي:
- إنّ حديث ابن عبّاس رأي منه واجتهاد، وقد خالفه ابن عمر وزيد ابن أرقم، والقياس معهما.
- وأمّا حديث أنس فلعلّه رواه بالمعنى، فظنّ ما ليس بأمر ولا تحريم كذلك، والحامل لذلك مخالفة الصحابي له في الفهم، مع أنّ ابن عمر راوي حديث بيع العينة.
هذا، ولا يخفى أنّ قيام مثل هذه التضعيفات والاحتمالات في أدلّة الجمهور على تحريم بيع العينة لها ما يعكِّرها سندا ومتناً، لذلك أخذ أصحاب هذا الرأي بعموم ظواهر النصوص الصحيحة القاضية بالجواز وعدلوا عن غيرها، حملا لحال الناس على الصلاح.
ج- مناقشة الأدلة السابقة
بعد استعراض ما تقدم نتناول مناقشة أدلة الفريقين على ما يأتي:
- أمّا حديث ابن عمر فقد روي بإسنادين: الإسناد الأوّل رجاله ثقات، غير أنّ الذي يعكّره احتمال التدليس، أمّا الإسناد الثاني يبيّن أنّ للحديث أصلا محفوظا عن ابن عمر، وله أيضا طريق ثالث رواه السري بن سهيل (54)، قال ابن كثير: "وروي من وجه ضعيف أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا، ويعضده حديث عائشة" (55).
والظاهر أنّ هذه الطرق يشدّ بعضها بعضا، لاسيما الآثار التي وردت عن ابن عباس وأنس بن مالك أنّها ممّا حرّم الله ورسوله، وكذا حديث عائشة، والمرسل منها ما يوافقه، وهذا ما يقوي الحديث ويجعله صالحا للاحتجاج.
- ومن حيث المتن، فإنّ دلالة الاقتران عند جمهور الأصوليين ضعيفة، لأنّ "الاقتران في النظم لا يستلزم الاقتران في الحكم" (56).
ولو سلّمنا حجيّة دلالة الاقتران فلِمَ لَم تقترن دلالتها بالجهاد المفروض من ناحية أنّ الترك فعل، وفعل المنهي عنه حرام، وعلى أقلّ تقدير –في حالة التسليم بحجيتها- فهي متأرجحة بين حكم الإباحة والمنع، والمنع مقدّم على الإباحة، ولو سلّمنا أنّ حقيقة الترجيح لتساوي دليلي الحكمين تساقطا وبطل طريق الاستدلال بها وآل الأمر إلى طلب الدليل الخارجي، وهو مؤيِّّد لتحريم العينة.
والقول بأنّ التوعّد بالذلّ لا يدلّ على التحريم فغير مُسلَّم، لأنّ الواجب على كل مسلم أن يطلب أسباب العزّة الدينية، وأن يتجنّب أسباب الذلّة المنافية للدين، وقد توعّد في الرواية الأخرى بإنزال البلاء، ولا يترتب ذلك إلاّ على ذنب عظيم وإثم كبير (57).
¥