وأيضًا فإنّ المصيبة ترد على القلب وهو غير موطِّنٍ لها فتزعجه، وهي الصدمة الأولى، وأمّا إذا تواردت بعد ذلك توطن لها، وعلم أنّه لا بد منها فيصيّره صبره شبيه الاضطرار، وهذه المرأة لما علمت أنّ جزعها لا يجدي عليها شيئًا جاءت تعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم كأنها تقول له: صبرت، فأخبرها أنّ الصبر: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى» [عدّة الصابرين: (61 ـ 62)].
ثالثًا: اجتناب ما ينافي الصبر.
فيجب على المصاب أن يترك ما يفعله أكثر الناس من عادات الجاهلية المتفشية في المجتمعات عند نزول المصيبة من الندب والنياحة، وخمش الوجوه وشقّ الجيوب وحلق الشعور والدعاء بالويل والثبور ونحو ذلك مما يشتمل على السخط على الربّ تبارك وتعالى وفعل ما يناقض الصبر.
فعن أبي مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ: الفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ»، وقال: «النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدرْعٌ مِنْ جَربٍ» رواه مسلم.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ وَشَقَّ الجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ» رواه مسلم.
وعن أبي بردة بن أبي موسى قال: «وُجِعَ أبو°موسى وجعًا فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله، فلم يستطع أن يردّ عليها شيئًا، فلمّا أفاق قال: أنا بريءٌ ممّن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم برئَ من الصالقةِ والحالقةِ والشاقَّةِ» متفق عليه.
والصالقة: التي ترفع صوتها بالبكاء.
والحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة.
والشاقَّة: التي تشقّ ثوبها.
ولهذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلَّم عند المصيبة البكاء الذي لا صوت معه وحزن القلب. فقال عند وفاة ابنه إبراهيم عليه السلام: «إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» متفق عليه من حديث أنس.
رابعًا: الاسترجاع.
وهو أن يقول المصاب: «إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا»، لقوله تعالى: ?وَبَشِّرِ الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون?. ولما روته أمّ سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ ?إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ? اللَّهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَخْلَفَهُ اللهُ خَيْرًا مِنْهَا» رواه مسلم.
وهذا الدعاء من أعظم الأدوية لعلاج المصيبة وأنفعها للعبد في الدنيا والآخرة.
فقوله «إنّا لله»: إقرار المصاب على أنّه عبد الله وملك له، والمَلِكُ يتصرّف في ملكه بما يريد.
وقوله «وإنّا إليه راجعون»: إقرار العبد بأنّ مصيره ومرجعه إلى الله جلّ وعلا وكلّ الخلائق فيجازينا عن أخلاقنا. فهو إيمان بالبعث بعد الموت فتضمّن هذا الدعاء مبدأ الخلق ومعادهم.
خامسًا: الرجوع إلى الله جلّ وعلا.
فلنعلم أنّ هذه المصيبة التي تحلّ بنا، والنوائب التي تَنْزِل علينا، إنما ذلك بما كسبته أيدينا، فالواجب علينا أن نرجع إلى الله تعالى بالتوبة النصوح، والإنابة الصادقة، والتضرّع والدعاء، والإقبال عليه، والاطّراح بين يديه، لأنه تعالى هو فارج الهمّ، وكاشف الكرب.
قال تعالى: ?أمن يجب المضطرّ إذا دعاه ويكشف السوء?، وقال تعالى: ?ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضرّاء لعلهم يتضرّعون فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ولكن قست قلوبهم وزيّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون?، وقال سبحانه: ?ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربّهم وما يتضرّعون?.
سادسًا: التحذير من نسبة الكارثة إلى الطبيعة.
¥