" وهذا صحيح في النظر والقياس " (16).
الوجه الثاني: أن الأبوين كما يشترطان فيما يبقى بعد الدين والوصية أثلاثا؛ فكذلك يجب أن يكون الحال فيما يبقى بعد فرض الزوجين (17) , ووجه ذلك: " أن ما يأخذه الزوج والزوجة من المال كأنه مأخوذ بدين أو وصية إذ لا قرابة بينهما , وما يأخذه الأبوان يأخذانه بالقرابة؛ فصار هما المستقلين بميراث الولد بعد فرض الزوجين , وهما في طبقة واحدة فقسم الباقي بينهما أثلاثا " (18).
وحاول ابن حزم رحمه الله تعالى جرح اطراد هذه القاعدة , واعتراض جريانها في الفرائض بجملة من الأمور:
الأول: بعض المسائل الفرضية , ادعى فيها أن الجمهور قد تناقضوا؛ حيث أنهم فضلوا الأنثى على الذكر فيها , وهي:
أ- امرأة ماتت وتركت زوجها , وأمها , وأخوين شقيقين , وأختها لأم؛ أن للأخت للأم السدس كاملا , وللذكرين الأخوين الشقيقين السدس بينهما ,لكل واحد منهما نصف السدس.
ب- امرأة ماتت وتركت زوجها , وأختها شقيقتها , وأخا لأب؛ أن الأخ لا يرث شيئا , فلو كان مكانه أخت فلها السدس , يعال به.
ثم قال بعد ذلك: " فهم لا ينكرون تفضيل الأنثى على الذكر " (19) , وقصده من الناحية العملية.
وفي الحقيقة , أن المتأمل فيما ذكره من المسائل لا يجد فيها تناقضا مع قاعدة المنع من تفضيل الأنثى على الذكر؛ لأن شرطها أن يكون الذكر والأنثى في طبقة واحدة , أي: في الجهة والقرب والرتبة , ومن جنس واحد.
فأما المسألة الأولى: فالأخت للأم تدلي بالرحم المجرد؛ فهي تدلي بالأم , وأما الأخوين الشقيقين فهما يدلين بالعصبة؛ وهو الأب , فاختلفت الجهة والسبب في ميراثهما فيختلف بالتالي ميراث كل منهم.
ثم إن " قاعدة الفرائض: أن جنس أهل الفروض فيها مقدمون على جنس العصبة , سواء كان ذا فرض محض أو كان له مع فرضه تعصيب في حال بنفسه وإما بغيره , والأخوات من جنس أهل الفرائض؛ فيجب تقديمهن على من هو أبعد منهن ممن لا يرث إلا بالتعصيب المحض … " (20).
وأما المسألة الثانية: فإن الأخت الشقيقة مقدمة على الأخ للأب في الرتبة فلا يقدر على تعصيبها , بل ترث لوحدها , وأهل الفرض مقدمون على أهل التعصيب كما سبق , فما بقي بعد الفروض – لو بقي – فإنه يكون للعصبة؛ لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله r : ( ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر) (21) , وهنا لم يبق شيء؛ فلا يلزم من ذلك تفضيلها عليه؛ لأن من شأن العصبة أنهم إذا انفردوا بالمال أخذوه جميعه , ومتى كان معهم أصحاب فروض مستغرقة فلا شئ لهم , وإن لم يستغرقا كان لهم الباقي بعد قسمة الفروض (22).
الثاني: قال ابن حزم رحمه الله تعالى:
" ولا نكرة في تفضيل الأم على الأب؛ فقد صح عن رسول الله r : ( أن رجلا سأله , فقال: يا رسول الله من أحق بحسن صحبتي؟ , فقال له رسول الله r : أمك , قال: ثم من يا رسول الله؟ , قال: أمك , قال: ثم من يا رسول الله؟ , قال: أمك , قال: ثم يا رسول الله؟ قال: أبوك) (23) , ففضل عليه الصلاة والسلام الأم على الأب في حسن الصحبة " (24).
وهذا الحديث الذي استدل به ابن حزم رحمه الله تعالى دلالته تقع خارج محل النزاع؛ فإنه وارد في موضوع البر والصلة , وليس في الإرث , وقد نقل الإمام المحاسبي - رحمه الله - الإجماع على أن تفضيل الأم في البر , وأنها مقدمة فيه على الأب (25) , ومع ذلك فلم ينقل الإجماع على تفضيل الأم على الأب في الميراث؛ فلا يحسن الاستدلال به في هذا الموضع.
والذي يبدو أن ابن حزم رحمه الله تعالى أورده على سبيل الاستئناس , وحشد الأدلة القريبة والبعيدة.
الثالث: قال ابن حزم رحمه الله تعالى:
" قد سوى الله تعالى بين الأب والأم بإجماعنا وإجماعهم في الميراث إذا كان للميت ولد فـ] ولأبويه لكل واحد منهما السدس … [(26) , فمن أين تمنعون تفضيلها عليه إذا أوجب ذلك نص (27)؟
ويمكن أن يجيبه على ذلك الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله؛ حيث قال:
¥