7315].
و في هذا الحديث أيضاً دليلٌ على مشروعيّة أداء الدين عن المتوفى و في ذمّته شيءٌ من حقوق العباد، و هو من قبيل الصدقة عنه، إذا لا يجب عن الأحياء إلا أن يتطوّعوا.
الصوم عن الميّت:
و يُشرَع الصوم عن الميّت، لما رواه الشيخان، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت، و عليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: (لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟) قال: نعم. قال: (فدين الله أحق أن يُقضى).
و يدلّ عليه أيضاً حديث بريدة رضي الله عنه الذي رواه مسلمٌ، و قد تقدّمَ آنفاً.
و في الحديث المتّفق على صحّته عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه و سلّم: (من مات و عليه صيامٌ صام عنه وليُّه).
و هذا في الصيام الواجب، كصوم رمضان، و صوم النذر، و الكفّارة، أمّا ما سقط عن العبد في حياته، فلا يقضى عنه بعد وفاته، كَمَن وجب عليه الصوم و هو زَمِنٌ فمات قبل أن يبرأ، أو أفطر في سفَرٍ مباحٍ، و مات في سفَره ذلك، فلا قضاء عليه، و لا على وليّه لكونه معذوراً، و تجب الكفّارة عِوَضاً عن القضاء في هذه الحالة.
أمّا الحجّ و الصيام عن الميّت تنفّلاً، فلا أعلَمُ دليلاً على مشروعيّته، و إن قال به جماعة من أهل العلم.
و خلاصة ما تقدّم أنّ من الأعمال الصالحة ما يُشرَع أداؤه عن الميت، و ينتفع به بعد موته بالاتفاق؛ كالدعاء و الصدقة مطلقاً، و الحج و الصوم الواجبين، و لا فَرقَ في ذلك كلّه بين أن يؤدّيه عن الميت قريب أو غريب، لعموم الأدلّة، و ما خُصَّ الوَلد الصالح بالذكر إلا لقربه من الميّت، و لكون ما يقوم به تجاه والديه من البرّ الواجب عليه تجاههما، فكان تخصيصه تذكيراً له بحقّ والديه و تنبيهاً إلى ما ينبغي أن يقوم به من البر بهما بعد موتهما، و للوالدين بواجبهما في تنشئته تنشئةً صالحاً، لأنّ الانتفاع بعد الممات يكون بدعاء الولد الصالح (و ليس أيّ ولد)، و الله أعلم.
قلتُ: و من المناسب في هذا المقام أن نتناول بالبيان مسألة قراءة القرآن عن الميت، أو التصدّق عليه بثواب القراءة أو مثل ثوابها، كما هو الشائع في معظم أمصار المسلمين اليوم.
فهل يصل ثواب قراءة القرآن الكريم إلى الميت؟
هذه مسألة خلافيّة قديمة، و لأهل العلم فيها قولان معروفان:
القول الأوّل: أنّه لا يصل، و هذا هو المشهور من مذهب الشافعي، و يؤيّده عدم ورود النص المجوّز للقراءة عن الميت، فتكون القراءةٌ بدعة منكرةً، لأنَّها عبادة، و الأصل في العبادات التوقيف، و عليه فلا يثاب فاعلها، و لا ينتفع بها من وُهِبَتْ إليه.
و قد ذهَب إلى هذا القول طائفة من المحققين المعاصرين، و معظم علماء الدعوة السلفيّة.
القول الثاني: أنّ ثواب القراءة يصل إلى الميّت، و هذا مذهب الجمهور (الأئمّة الثلاثة، و جماعة من أصحاب الشافعي، و غيرهم)، بل زُعمَ على وُصوله الإجماع السكوتي.
ففي المغني لابن قدامة: قال أحمد بن حنبل: الميت يصل إليه كل شيء من الخير، للنصوص الواردة فيه، و لأن المسلمين يجتمعون في كل مصر، و يقرؤون، و يُهدون لموتاهم من غير نكير، فكان إجماعاً. اهـ.
و القول بوصول الثواب إلى الميت هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله، و قد انتصر له في غير موضع من كتبه، و تابَعه على ذلك تلميذه ابن القيّم، و حجّته عدَم ورود النهي، و أنّه يقاس على ما أخبر الشارع بانتفاع الأموات بها، و بلوغهم ثوابها إذا أُهديَ إليهم، كالدعاء و الصدقة و الصوم و الحج.
قال شيخ الإسلام: (أما القراءة، و الصدقة و غيرهما من أعمال البر؛ فلا نزاع بين علماء السُنَّة و الجماعة في وصول ثواب العبادات المالية؛ كالصدقة و العتق، كما يصل إليه أيضاً الدعاء و الاستغفار، و الصلاة عليه صلاة الجنازة، و الدعاء عند قبره.
و تنازعوا في وصول الأعمال البدنية؛ كالصوم، و الصلاة، و القراءة، و الصواب: أن الجميع يصل إليه ... و هذا مذهب أحمد، و أبي حنيفة، و طائفة من أصحاب مالك، و الشافعي.
¥