وهو الذي اختاره وأقول به. لأن الأدلة الواردة في انتفاع الميت بعمل الحي في باب العبادات تدل على انتفاع الميت بقراءة القرآن إذ لا فرق بين انتفاعه بالصوم والحج وانتفاعه بقراءة القرآن.
قال ابن قدامة رحمه الله: (وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك إن شاء الله). المغني 2/ 423 ثم ذكر بعض الأدلة الدالة على انتفاع الميت بعمل الحي وقد سقت بعضها ثم قال: (وهذه أحاديث صحاح وفيها دلالة على انتفاع الميت فكذلك ما سواها) المغني 2/ 423.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: (وأما قراءة القرآن وإهداءها له تطوعاً بغير أجرة، فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج. فإن قيل فهذا لم يكن معروفاً في السلف ولا يمكن نقله عن واحدٍ منهم مع شدة حرصهم على الخير، ولا أرشدهم النبي إليه، وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والصيام. فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه ولكانوا يفعلونه.
فالجواب أن مورد هذا السؤال، إن كان معترفاً بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء والاستغفار قيل له: ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب هذه الأعمال؟ وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات؟ وإن لم يعترف بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع.
وأما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك في السلف، فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على من يقرأ ويهدي إلى الموتى، ولا كانوا يعرفون ذلك البتة، ولا كانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم، ولا كان أحدهم يُشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لفلان الميت. بل ولا ثواب هذه الصدقة والصوم.
ثم يقال لهذا القائل: لو كلفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال اللهم اجعل ثواب هذا الصوم لفلان لعجزت فإن القوم كانوا أحرص شيء على كتمان أعمال البر فلم يكونوا يشهدوا على الله بإيصال ثوابها إلى أمواتهم.
فإن قيل إن رسول الله أرشدهم إلى الصوم والصدقة والحج دون القراءة، قيل هو لم يبتدئهم بذلك، بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم. فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له، وهذا سأله عن الصيام عنه فأذن له، وهذا سأله عن الصدقة فأذن له، ولم يمنعهم مما سوى ذلك. وأي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وأمساك وبين وصول ثواب القراءة والذكر؟
والقائل: إن أحدا من السلف لم يفعل ذلك قائل ما لا علم له به، وما يدريه أن السلف كانوا يفعلون ذلك ولا يشهدون من حضرهم عليه؟ بل يكفي اطلاع علام الغيوب على نياتهم ومقاصدهم، لا سيما والتلفظ بنية الإهداء لا يشترط كما تقدم.
وسر المسألة أن الثواب ملك للعامل، فإذا تبرع به وأهداه لأخيه المسلم أوصله الله إليه، فما الذي خص من هذا ثواب قراءة القرآن وحجر على العبد أن يوصله إلى أخيه؟ وهذا عمل الناس حتى المنكرين في سائر الأعصار والأمصار من غير نكير من العلماء. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.) الروح ص 142 - 143.»
أقول وبالله التوفيق:
الراجح عندي أن إهداء ثواب قراءة القرآن لا يصل إلى الميت ولا ينتفع به والله أعلم بالصواب.
وقول المرجحين وصول الثوابِ لا يستند إلا على الدليل العقلي، والدليل النقلي على خلافه.
فإن قيل: «الأدلة الواردة في انتفاع الميت بعمل الحي في باب العبادات تدل على انتفاع الميت بقراءة القرآن». قلنا: الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، وإلا دخلنا في معنى قوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّه).
? نعم، أجمع العلماء على أن دعاء الحي للميت ينفعه والأدلة عليه من الكتاب والسنة كثيرة. فمن الكتاب قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ).
ومن السنة، ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ
¥