الثانية: صرحوا بأنه في جلسة التشهد، منهم ابن عيينة في رواية للنسائي، وشعبة عند ابن خزيمة في «صححيه» وأحمد، وأبو الأحوص عند الطحاوي والطبراني في «المعجم الكبير»، وخالد عند الطحاوي، وزهير بن معاوية وموسى بن أبي كثير وأبو عوانة ثلاثتهم عند الطبراني. وخالف هؤلاء جميعًا عبد الرزاق في روايته عن الثوري، فقال في «المصنف» وعنه أحمد والطبراني في «المعجم الكبير»: عن الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه قال: (رمقت النبي - صلى الله عليه وسلم - فرفع يديه في الصلاة حين كبر ... [وسجد فوضع يديه حذو أذنيه]، ثم جلس فافترش رجله اليسرى، ثم وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، وذراعه اليمنى على فخذه اليمنى، ثم أشار بسبابته ... ثم سجد، فكانت يداه حذو أذنيه»، قلت: والسياق للمصنف، والزيادة لأحمد.
فذكره السجدة الثانية بعد الإشارة بالسبابة خطأ واضح، لمخالفته لرواية كل من سبق ذكره من الثقات، فإنهم جميعًا لم يذكروا السجدة بعد الإشارة، وبعضهم ذكرها قبلها، وهو الصواب يقينًا، وإنما لم يذكروا معها السجدة الثانية اختصارًا، وقد ذكرها زهير بن معاوية فقال: ( ... ثم سجد فوضع يديه حذاء أذنيه، ثم سجد فوضع يديه حذاء أذنيه، ثم قعد فافترش رجله اليسرى ... ثم رأيته يقول هكذا، ورفع زهير أصبعه المسبحة» رواه الطبراني ...
وقد يقول قائل: لقد ظهر بهذا التحقيق خطأ ذكر التحريك بين السجدتين ظهورًا لا يدع ريبًا لمرتاب، ولكن ممن الخطأ؟ أمن الثوري الذي خالف جميع الثقات، أم من عبد الرزاق الذي أخطأ هو عليه؟
فأقول: الذي أراه - والله أعلم - أن الثوري بريء من هذا الخطأ، وأن العهدة فيه على عبد الرزاق، وذلك لسببين:
الأول: أن عبد الرزاق وإن كان ثقةً حافظًا، فقد تكلم فيه بعضهم، ولعل ذلك لما رأوا له من الأوهام، وقد قال الحافظ في آخر ترجمته من «التهذيب»: (ومما أنكر على عبد الرزاق روايته عن الثوري عن عاصم بن عبيد الله عن سالم عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على عمر ثوبًا، فقال: أجديد هذا أم غسيل؟ الحديث ... قال الطبراني في «الدعاء»: رواه ثلاثة من الحفاظ عن عبد الرزاق، وهو مما وهم فيه عن الثوري)، قلت: وممن أنكر هذا على عبد الرزاق يحيى بن معين كما رواه ابن عدي في «الكامل»، فليكن حديث وائل من هذا القبيل. ويؤيده السبب التالي:
والآخر: أنه خالفه عبد الله بن الوليد عند أحمد ومحمد بن يوسف الفريابي، فروياه عن الثوري - سماعًا منه - به، دون ذكر السجدة بعد الإشارة، فاتفاق هذين الثقتين على مخالفة عبد الرزاق مما يرجح أن الخطأ منه، وليس من الثوري، ولاسيما و الفريابي كان من تلامذة الثوري الملازمين له، فهو أحفظ لحديثه من عبد الرزاق، وبخاصة ومعه عبد الله بن الوليد، وهو صدوق» ا. هـ كلام الألباني بطوله من تمام المنة (ص214 - 216)
وقال أيضا: قد روى عبد الرزاق عن الثوري عن عاصم بن كليب بإسناده المتقدم عن وائل .. فذكر الحديث و الافتراش في جلوسه قال: " ثم أشار بسبابته و وضع الإبهام على الوسطى حلق بها و قبض سائر أصابعه , ثم سجد فكانت يداه حذو أذنيه ". فهذا بظاهره يدل على أن الإشارة كانت في الجلوس بين السجدتين , لقوله بعد أن حكى الإشارة: " ثم سجد .. ". فأقول: نعم قد روى ذلك عبد الرزاق في " مصنفه ", و رواه عنه الإمام أحمد (4/ 317) و الطبراني في " المعجم الكبير " و زعم الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي في تعليقه عليه: " أنه أخرجه الأربعة إلا الترمذي و البيهقي مفرقا في أبواب شتى ". و هو زعم باطل يدل على غفلته عن موجب التحقيق فإن أحدا منهم ليس عنده قوله بعد الإشارة: " ثم سجد " , بل هذا مما تفرد به عبد الرزاق عن الثوري , و خالف به محمد بن يوسف الفريابي و كان ملازما للثوري , فلم يذكر السجود المذكور. رواه عنه الطبراني. و قد تابعه عبد الله بن الوليد حدثني سفيان ... به. أخرجه أحمد (4/ 318). و ابن الوليد صدوق ربما أخطأ , فروايته بمتابعة الفريابي له أرجح من رواية عبد الرزاق , و لاسيما و قد ذكروا في ترجمته أن له أحاديث استنكرت عليه , أحدها من روايته عن الثوري , فانظر " تهذيب ابن حجر " و " ميزان الذهبي " , فهذه الزيادة من أوهامه {السلسلة الصحيحة 5/ 309}
قلت: قال المزي: قال أبو بكر بن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين و سئل عن أصحاب الثوري، فقال: أما عبد الرزاق، و الفريابي، و عبيد الله بن موسى، و أبو أحمد الزبيري، و أبو عاصم، و قبيصة و طبقتهم فهم كلهم في سفيان قريب بعضهم من بعض، و هم دون يحيى بن سعيد و عبد الرحمن بن مهدي، و وكيع، و ابن المبارك، و أبى نعيم. [تهذيب الكمال 18/ 56]
فدرجة الفريابي قريب من درجة عبد الرزاق لكن الفريابي أولى من عبد الرزاق في حديث الثوري كما ذكره ابن حجر فقال: ثقة فاضل، يقال أخطأ في شيء من حديث سفيان، و هو مقدم فيه مع ذلك عندهم على عبد الرزاق {تقريب التهذيب 1/ 515 (6415)}
فعلم أن الفريابي إن كان مقدم من عبد الرزاق لكنه أخطأ في حديث سفيان وإن كان له طول الملازمة معه , وعبد الرزاق و إن كان تغير في آخره بعد ما عمي لكن كان حافظا ومن المعلوم أن سماع أحمد بن حنبل منه قبل هذه العارضة قبل تمام المائتين من الهجرية كما ذكره السيوطي في الطبقات {طبقات الحفاظ 1/ 158 ,159 (337)}
فثبت أن كلمة ثم سجد زيادة من ثقة حافظ وزيادة الثقة مقبولة ما لم يكن منافيا للثقات أو الأوثق منه
وقال الأستاذ الحافظ عبد المنان النور فوري حفظه الله تعالى: ما خالف عبد الرزاق أحدا لأنه روى كلمة ثم سجد ولم يروها آخرون فلا شذوذ وإنما كان الشذوذ لو كان عاصما روى ثم سجد وروى الآخرون كلمة ثم لم يسجد أو ما يفيد مفادها مما يخالف وينافي " ثم سجد "
وإن كنت تريد أن تندرء الشبهة التي وقع في نفسك فعليك أن تدرس بحث الألباني في حديث هزيل عن المغيرة بن شعبة في المسح على الجوربين وإذا أمعنت فيما كتب الألباني هنالك ظهر لك ظهور الشمس رابعة النهار أن الحكم ههنا بأن ثم سجد شاذ أو وهم ليس مبنيا على الأصول والقواعد المتقنة الصحيحة عند أهل العلم والمعرفة بالحديث.
¥