هناك أمثلة عديدة من الواقع كانت خير شاهد على عدم صلاحية هؤلاء أو سابقيهم للقيام بهذا العمل، حيث تم عمل العديد من الأفلام والمسلسلات، وظهر بها عدد كبير من الصحابة (رضى الله عنهم)، ممن يشترك مع العشرة المبشرين بالجنة فى الكثير من أعمالهم وصفاتهم، ومع ذلك لم يخرج المشاهدون بما كانوا يأملونه من ذلك، بسبب سطحية الصورة التى تحكى حياة هؤلاء، فلم تكن هناك قدرة على إدراك الأبعاد النفسية والعقدية والاجتماعية التى يتحرك بها هؤلاء الأصحاب الكرام.
فأين الممثل الذى يستطيع أن يستوعب شخصية الصحابى الذى يقف فى ساحة المعركة أمام أبيه - الذى كان لا يزال على دين آبائه - ويلتقى به وجهًا لوجه؟
أين الممثل الذى يستطيع أن يستوعب شخصية الصحابى الذى يرى سيوف إخوانه تنهش أباه من كل جانب حتى تجهز عليه، ولا يشهر سيفه ضد أحدٍ منهم، ويكتفى بقوله: {يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}؟
أين الممثل الذى يستطيع أن يستوعب تلك الجوانب المتعددة لمثل هذه الشخصية التى تملك رهافة الحس حتى إنه إذا سمع آية على حين غفلة فيُحمل إلى بيته، ويعاد أيامًا، وهو هو نفسه الذى دمر عروش الأكاسرة، وأنهى عهد القياصرة؟
والأمثلة عديدة من الصور الفريدة التى يصعب استيعاب أبعادها، من أحد هؤلاء، فضلاً عن القدرة على محاكاتها.
وهناك جانب آخر يساعد على عدم حدوث ما يتوقعه الأخ الحبيب من استفادة القدوة الحسنة من هذه الشخصية المحكية، إنما هو مجرد تمثيل، ليس له مصداقية من الواقع الذى كان يعيشه هذا الصحابى؛ لأن التمثيل منذ نشأ إنما هو حكايات عن قصص خيالية حسب تصور الكاتب لها، حيث يمكنه أن يتصور قصة لشخص طيب، كما يمكنه أن يتصور قصة لشخص شرير، والممثل قد يكون هو هو الذى يمثل هذا وذاك، إذ كل ما يفعله هو أن يتقمص هذه الشخصية أو تلك، من خلال (الماكياج) وعليه أن ينطق العبارات التى يطلب منه أن ينطق بها، مما يتطلبه دوره.
لذلك كان التأسى بما يقرأ عن حياة الأصحاب أعظم بكثير مما لو كان ذلك عن طريق المشاهدة فى مسلسل؛ لأنه فى القراءة يقرأ عن حياة واقعية تستند إلى رواية تاريخية، بينما الذى يتطرق إليه ذهن المشاهد فى المسلسل أن المسألة لا تعدو أن تكون تمثيلاً فى تمثيل كما هو الشأن فى الكم الهائل الذى شاهده فى المسلسلات الأخرى من قبل.
كذلك ثبت من خلال التجارب فى المسلسلات التى كانت تدور حول شخصيات واقعية أنه يكاد يستحيل تمثيل دور شخصية واقعية دون مزجها بشيء من الخيال، سواء كانت تلك الشخصية إسلامية أو غير إسلامية، والدليل على ذلك: هذه الاعتراضات الكثيرة التى تصاعدت بعد عرض مسلسلات عن بعض الشخصيات المعاصرة أو التاريخية مثل مسلسل عن شخصية الشيخ محمد متولى الشعراوى، ومن قبله عن شخصية أحمد عرابى، وشفيقة ومتولى، وذئاب الجبل.
ولست خبيرًا فى ذلك، ولكن ما يكتب فى وسائل الإعلام عقب كل مسلسل من ذلك، كاف فى إثبات هذه الفرضية، وعليه فلن تسلم هذه الشخصيات من هذا المزج الذى تقتضيه طبيعة هذا العمل، وبذلك يختلط الأمر على المشاهدين بين الوقائع التاريخية والخيالية، وتذهب بذلك تلك المعانى العاطرة التى تحتفظ بها الذاكرة لهؤلاء الأعلام.
لذلك أرجو أن تبقى حياة هؤلاء الكرام المصونة؛ كنزًا عظيمًا ممتلئًا بالمثل والمبادئ والأخلاق، كلٌ يغترف منه حسب ما هو مؤهلٌ له، وحسب ما تدعو إليه الحاجة من ظروف الزمان والمكان.
أما فكرة تكوين مؤسسة خاصة تتولى الإشراف على ذلك العمل، فهى فكرة مثالية يصعب تحقيقها، أو توقع نتائج مثمرة لها، وذلك لما يلى:
أولاً - إذا افترضنا قيام هذه المؤسسة، فلن تجد الهيئة التى تستطيع أن تتخذ القرار المناسب فى ذلك؛ لأنها تحتاج إلى هيئة متخصصة فى أعمال فنية ذات طابع خاص، ولا يوجد أحد يملك هذا التخصص إلا الفريق الذى يعمل على الساحة الآن، وكان منبع الفكرة هو البعد عن هذا الواقع المعيش؛ فقد رضيه من رضيه، ويأباه من يأباه.
وأعود فأقول: قد يوجد فرد أو أفراد من هؤلاء للظن الحسن فيهم مجال، لكن هذه الأعمال الكبيرة تحتاج إلى مجموعات كبيرة؛ لأنها ذات مراحل متعددة ومتنوعة.
¥