تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وما حرمه الله – تعالى – من البغي والقتل وغير ذلك: إذا فعله الرجل متأولا مجتهدا معتقدا أنه ليس بحرام: لم يكن بذلك كافرا ولافاسقا،بل ولاقود في ذلك،ولادية،ولاكفارة،كما قال الزهري: (وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون،فأجمعوا على أن كل دم،أو مال،أو فرج أصيب بتأويل القرآن: فهو هدر)،وقد ثبت في الصحيح: أن أسامة بن زيد قتل رجلا من الكفار بعدما قال: لا إله إلا الله،فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ياأسامة: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ " قال: (فقلت: يارسول الله: إنما قالها متعوذا)،فقال: " هلا شققت عن قلبه!،وكرر عليه قوله: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ "،ومع هذا فلم يحكم عليه بقود،ولادية،ولاكفارة؛لأنه كان متأولا اعتقد جواز قتله بهذا،مع ماروي عنه: أن رجلا قال له: (أرأيت إن قطع رجل من الكفار يدي،ثم أسلم،فلما أردت أن أقتله لاذ مني بشجرة أأقتله؟)،فقال: " إن قتلته كنت بمنزلته قبل أن يقول ماقال،وكان بمنزلتك قبل أن تقتله "،فبين أنك تكون مباح الدم كما كان مباح الدم،ومع هذا فلما كان أسامة متأولا لم يبح دمه.

وأيضا فقد ثبت: أنه أرسل خالد بن الوليد إلى بني جذيمة،فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا،فقالوا: صبأنا .. صبأنا،فلم يجعل خالد ذلك إسلاما،بل أمر بقتلهم،فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: رفع يديه إلى السماء،وقال: " اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد "،وأرسل عليا فوداهم بنصف دياتهم،ومع هذا فلم يعاقب خالدا،ولم يعزله عن الإمارة؛لأنه كان متأولا،وكذلك فعل به أبو بكر لما قتل مالك بن نويرة: كان متأولا في قتله،فلم يعاقبه،ولم يعزله؛لأن خالدا كان سيفا قد سله الله – تعالى – على المشركين،فكان نفعه للإسلام عظيما،وإن كان قد يخطئ أحيانا،ومعلوم أن عليا،وطلحة،والزبير أفضل من خالد وأسامة وغيرهم.

ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن: " إن ابني هذا سيد،وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " فمدح الحسن على الإصلاح،ولم يمدح على القتال في الفتنة: علمنا أن الله ورسوله كان يحب الإصلاح بين الطائفتين دون الاقتتال.

ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في الخوارج: " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم،وقراءته مع قراءتهم،يقرؤون القرآن،لايجاوز حناجرهم،يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية،أينما لقيتموهم فاقتلوهم،فإن في قتلهم أجرا عند الله – لمن قتلهم – يوم القيامة "،وقال: " يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق "،وروي: " أولى الطائفتين بالحق " من معاوية وأصحابه.

واعلم أن قتال الخوارج المارقة: أهل النهروان – الذين قاتلهم: علي بن أبي طالب – كان قتالهم مما أمر الله به ورسوله،وكان علي محمودا مأجورا على قتاله إياهم بخلاف قتال الفتنة،فإن النص فيها قد دل على أن ترك القتال فيها كان أفضل؛لقوله صلى الله عليه وسلم: " ستكون فتنة: القاعد فيها خير من القائم،والقائم فيها خير من الماشي،والماشي خير من الساعي "،ومثل قوله لمحمد بن مسلمة: " هذا لاتضره الفتنة "؛فاعتزل محمد بن مسلمة الفتنة،وهو من خيار الأنصار،فلم يقاتل مع هؤلاء ولا مع هؤلاء،وكذلك أكثر السابقين لم يقاتلوا،بل مثل سعد بن أبي وقاص،ومثل أسامة بن زيد،وعبدالله بن عمر،وعمران بن حصين،ولم يكن في العسكرين بعد علي أفضل من سعد بن أبي وقاص،ولم يقاتل،وزيد بن ثابت،ولاأبو هريرة،ولاأبو بكرة،ولاغيرهما من أعيان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين،وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهبان بن صيفي: " خذ هذا السيف،فقاتل به المشركين،فإذا اقتتل المسلمون فاكسره "،ففعل ذلك،ولم يقاتل في الفتنة،وفي الصحيحين: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر؛يفر بدينه من الفتن "،وفي الصحيح: عن أسامة،عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إني لأرى الفتنة تقع خلال بيوتكم كمواقع القطر ".

والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة في إخباره بما سيكون في الفتنة بين أمته،وأمره بترك القتال في الفتنة،وأن الإمساك عن الدخول فيها خير من القتال.

وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: " سألت ربي لأمتي ثلاثا،فأعطاني اثنين،ومنعني واحدا: سألته أن لايسلط عليهم عدوا من غيرهم؛فأعطانيها،وسألته أن لايهلكهم بسنة بعامة؛فأعطانيها،سألته أن لا يجعل بأسهم بينهم؛فمنعنيها "

وكان هذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم،وفضائل هذه الأمة؛إذ كانت النشأة الإنسانية لابد فيها من تفرق واختلاف وسفك دماء،كما قالت الملائكة: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء "،ولما كانت هذه الأمة أفضل الأمم،وآخر الأمم: عصمها الله أن تجتمع على ضلالة،وأن يسلَّط عدو عليها كلها كما سلط على بني إسرائيل،بل إن غُلب طائفة منها كان فيها طائفة قائمة ظاهرة بأمر الله إلى يوم القيامة،وأخبر أنه: " لاتزال فيها طائفة ظاهرة على الحق،حتى يأتي أمر الله "،وجعل مايستلزم من نشأة الإنسانية من التفرق والقتال: هو لبعضها مع بعض،ليس بتسليط غيرهم على جميعهم،كما سلط على بني إسرائيل عدوا قهرهم كلهم،فهذه الأمة – ولله الحمد – لاتقهر كلها،بل لابد فيها من طائفة ظاهرة على الحق،منصورة إلى قيام الساعة إن شاء الله – تعالى –.

والله أعلم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير