3 - أن علماء الحديث الذين زعموا أنهم متأخرون من أمثال ابن الصلاح وابن حجر لم يأتوا بمصطلحات حديثية من تلقاء أنفسهم بل جمعوا ورتبوا وألفوا بين ما تركه الأقدمون.
4 - وأما ما يتعلق بالحديث الحسن لغيره فالجواب على وجوه متعددة:
الأول: هذا التفريق ليس له أصل عند علماء المسلمين، ولذلك فهذا القول مخترع ومحدث.
ولقد سمعت شيخنا أسد السنّة وقامع البدعه أبو عبدالرحمن ناصر الدين الألباني -وقد سئل عمن لا يقوون الحديث الضعيف بتعدد طرقه ـ فتلا قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} [النساء:115].
الثاني: اضطرابهم في تحديد من هو المتقدم ومن هو المتأخر.
لذلك لا تجد لهم قولاً ثابتاً بل كل منهم قوله واجتهاده.
الثالث: قوله تعالى: {واشتشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة: 282].
ووجه الدلالة: أن معنى {تضل}؛ أي: تنسى؛ فجبر الله عز وجل نقص المرأة وخطأها ونسيانها بالأخرى؛ فيتبين أن الضعيف يشتد بمثله، فمن كان في حفظه ضعف أو نقص ينجبر إذا تابعه غيره.
الرابع: قول علماء الجرح والتعديل في بعض الرواة: «فلان يكتب حديثه، ولا يحتج به» و «فلان يعتبر به» و «فلان لا يعتبر به».
فكون الراوي يعتبر به ويكتب حديثه؛ أي: يصلح للإعتبار في المتابعات والشواهد.
قال ابن الصلاح رحمه الله في «المقدمة في علوم الحديث» (ص248): «ثم اعلم أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من يحتج بحديثه وحده، بل يكون معدوداً في الضعفاء، وفي كتابي البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد، وليس كل ضعيف يصلح لذلك، ولهذا يقول الدارقطني وغيره في الضعفاء: فلان يعتبر به، وفلان لا يعتبر به».
وبهذا يتضح مقصد علماء الجرح والتعديل أن الضعيف الذي لم يشتد ضعفه ينجبر برواية غيره.
الخامس: مسألة الحفظ نسبية، ولذلك يختلف اجتهاد العلماء في بعض الرواة، فبعضهم يصحح حديثهم، وآخرون يحسنونه وقد يضعفهم آخرون، وقد سبق كلام المصنف رحمه الله في الحديث الحسن: «ثم لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها، فأنا على إياس من ذلك، فكم من حديث تردد فيه الحفاظ، هل هو حسن أو ضعيف أو صحيح؟ بل الحافظ قد يتغير اجتهاده في الحديث الواحد؛ فيوماً يصفه بالصحة، ويوماً يصفه بالحسن، ولربما استضعفه.
وهذا حق، فإن الحديث الحسن يستضعفه عن أن يرقيه إلى رتبه الصحيح، فبهذا الاعتبار فيه ضعف ما، إذ الحسن لا ينفك عن ضعف ما، ولو انفك عن ذلك لصح باتفاق».
وسيأتي قوله رحمه الله في الضعيف «ما نقص عن درجة الحسن قليلاً، ومن ثم تردد في حديث الناس، هل بلغ حديثهم إلى درجة الحسن أم لا؟.
وبلا ريب فخلق كثير من المتوسطين في الرواية بهذه المثابة، فآخر مراتب الحسن هي أول مراتب الضعيف».
ورحم الله شيخه ابن تيميه القائل في «مجموع الفتاوى» (18/ 26): «وقد يكون الرجل عندهم ضعيفاً؛ لكثرة الغلط في حديثه، ويكون حديثه الغالب عليه الصحة لأجل الاعتبار به والاعتضاد به؛ فإن تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضاً حتى قد يحصل العلم بها، ولو كان الناقلون فجاراً فساقا، فكيف إذا كانوا علماء عدولاً، ولكن كثر في حديثهم الغلط».
السادس: الاعتبار بحديث الضعيف الذي لم يشتد ضعفه من البدهيات التي يقتضيها العقل الصحيح؛ لأنها عملية رياضية واضحة.
السابع: ما جرى عليه علماء الحديث خلفاً عن سلف، وورثوه كابراً عن كابر.
قال سفيان الثوري رحمه الله: «إني لأكتب الحديث على ثلاثة وجوه: فمنه ما أتدين به، ومنه ما أعتبر به، ومنه ما أكتبه لأعرفه» (أ).
وقال الإمام أحمد رحمه الله: «قد يحتاج الرجل أن يحدث عن الضعيف مثل عمرو بن مرزوق، وعمرو بن حكام، ومحمد بن معاوية، وعلي بن الجعد، وإسحاق بن إسرائيل، ولا يعجبني أن يحدث عن بعضهم.
وقال في رواية ابن القاسم: ابن لهيعة ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، إنما قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع حديث غيره يشده، لا أنه حجة إذا انفرد.
وقال في رواية المروذي: كنت لا أكتب حديث جابر الجعفي ثم كتبته؛ اعتبر به» (ب).
¥