قدمنا هناك، ما يدل على أن ذلك القضاء الواجب على المحصر بمرض أو نحوه إنما هو في حجة الإسلام، وأنه لا قضاء على المحصر في غيرها، وبينا أدلة ذلك هناك في الكلام على قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ} والرواية التي ذكرنا هناك: فقد حل وعليه حجة أخرى، وهذه الرواية قد بينتها رواية «وعليه الحج من قابل» وهي ثابتة: وهي دالة على الفور مفسرة للرواية التي ذكرنا هناك.
فهذه الأحاديث مع تعددها واختلاف طرقها، تدل على أن وجوب الحج على الفور، وتعتضد بالآيات القرآنية التي قدمناها، وتعتضد بما سنذكره إن شاء الله من كلام أهل الأصول.
واعلم أن المخالفين قالوا: إن هذه الأحاديث لم يثبت منها شيء، وأن حديث «من أراد أن يحج فليتعجل» مع ضعفه حجة لهم لا عليهم، لأنه وكل الأمر إلى إرادته. فدل على أنه ليس على الفور، ولا يخفى أن الأحاديث التي ذكرنا لا يقل مجموعها عن درجة الاحتجاج، على أن وجوب الحج على الفور.
ومن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور: هو أن الله أمر به، وأن جماعة من أهل الأصول قالوا: إن الشرع واللغة والعقل كلها دال على اقتضاء الأمر الفور. أما الشرع فقد قدمنا الآيات القرآنية الدالة على المبادرة فوراً، لامتثال أوامر الله كقوله {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}، وكقوله {سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}، وبينا دلالة تلك الآيات وأمثالها على اقتضاء الأمر الفور، وأوضحنا ذلك.
وأما اللغة: فإن أهل اللسان العربي، مطبقون على أن السيد لو قال لعبده: اسقني ماء، فلم يفعل، فأدبه، فليس للعبد أن يقول له: صيغة أفعل في قولك: اسقني ماء، تدل على التراخي، وكنت سأمتثل بعد زمن متراخ عن الأمر بل يقولون: إن الصيغة ألزمتك فوراً، ولكنك عصيت أمر سيدك بالتواني والتراخي.
وأما العقل: فإنا لو قلنا: إن وجوب الحج على التراخي، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون ذلك التراخي له غاية معين ينتهي عندها، وإما ألا والقسم الأول ممنوع، لأن الحج لم يعين له زمن يتحتم فيه، دون غيره من الأزمنة، بل العمر كله تستوي أجزاؤه بالنسبة إليه. إن قلنا: إنه ليس على الفور.
والحاصل: أنه ليس لأحد تعيين غاية له لم يعينها الشرع.
والقسم الثاني الذي هو: أن تراخيه، ليس له غاية، يقتضي عدم وجوبه، لأن ما جاز تركه جوازاً، لم تعين له غاية ينتهي إليها، فإن تركه جائز إلى غير غاية، وهذا يقتضي عدم وجوبه والمفروض وجوبه.
فإن قيل: غايته الوقت الذي يغلب على الظن بقاؤه إليه.
فالجواب: أن البقاء إلى زمن متأخر، ليس لأحد أن يظنه؟ لأن الموت يأتي بغتة، فكم من إنسان يظن أنه يبقى سنين فيخترمه الموت فجأة، وقد قدمنا قوله تعالى في ذلك {وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} ولا ينتهي إلى حالة يتيقن الموت فيها،
إلا عند عجزه عن العبادات، ولا سيما العبادات الشاقة كالحج. والإنسان طويل الأمل، يهرم، ويشب أمله وتحديد وجوبه بستين سنة تحديد لا دليل عليه.
فهذه جملة أدلة القائلين: بأن وجوب الحج على الفور، ومنعوا أدلة المخالفين قالوا إن قولكم: إن الحج فرض سنة خمس بدليل قصة ضمام بن ثعلبة المتقدمة، فإن قدومه سنة خمس، وقد ذكر له النَّبي صلى الله عليه وسلم وجوب الحج، وأن قوله تعالى {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. نزلت عام ست في عمرة الحديبية. دلت على أن الحج مفروض عام ست، وأنه صلى الله عليه وسلم أخره بعد فرضه إلى عام عشر، كل ذلك مردود، بل الحج إنما فرض عام تسع، قالوا: والصحيح أن قدوم ضمام بن ثعلبة السعدي كان سنة تسع.
وقال ابن حجر في الإصابة في ترجمة ضمام المذكور ما نصه: وزعم الواقدي أن قدومه كان في سنة خمس، وفيه نظر. وذكر ابن هشام عن أبي عبيد: أن قدومه كان سنة تسع، وهذا عندي أرجح ا ه. منه، وانظر ترجيح ابن حجر لكون قدومه عام تسع.
¥