باب ٌ: في سبيل الوقاية من طرق الغواية - أو حفظ العقل وصيانة الفكر من الانحراف والميل-
ـ[زياد العضيلة]ــــــــ[23 - 03 - 06, 09:10 م]ـ
الحمدلله وكفى والصلاة والسلام على خير من اصطفى نبينا محمد وآله وصحبه ومن أقتدى واهتدى، ثم أما بعد:
فإني في تضاعيف الغيبة السابقة قد سحت في بعض البلاد، و جلت بضعة أقاليم، قابلت خلالها أطياف من الشيب والشباب و شاممت كثير من العباد. وكان ممن رأيت وقابلت بعض من حادت به الطريق وجالت به شياطين الفكر فانحرف عن قسطاس الدين. و لايكاد واحد منا الا وقد عرف قريبا أو صديقا او حبيبا خالف النهج و غادر الركب و شط به الفكر.
وهذه من بلايا هذا الزمان، و فتنه العظام، حيث يتقلب الفكر، ويصبح الرجل مؤمنا ويمسى مفتونا او كافرا ويصبح كافرا ويمسى مؤمنا. والله المستعان. وقد تأملت في أسباب هذه الانتكاسات الفكرية والانحرافات العقدية والغواية بعد الهداية واستقرأت أسبابها و سبرت مسبباتها وعرفت شيئا من بواعثها.فرجوت أن أنشر الداء و دواءه ليكن المؤمن على بينة من أمره فطنا متحرزا في نفسه من أسباب الغواية الفكرية.
و أسباب الأنحراف عن طريق الحق وسبيل الهداية على قسمين:
أما الأول: فهو المتعلق بالشهوات وميل الهوى وهذا ليس بخفى على صاحبه في الغالب وليس له علاج الا تقوى الله ولهذا فلن نطرقه لوضوح حال صاحبه وعدم خفاءه، وصاحبه في رجاء عودته خيرا من أصحاب القسم الثاني وهو:
ما كان باعثه الشبهات المحرقة وهي التى سنطيل النفس في ذكرها وعلاجها.
أما أول أسباب الغواية من هذا القسم فهو:
1 - تزيين الباطل وتحسينه وتنميق اللفظ وتزويقه.
وهو من أخطرها فبالكلام يخرج الأنسان مكنونه، ويعبر عن دواخله، فاللغة نواقل الفكر و حوامله، وكم من باطل حسّنه أهله وزينوه ببديع من القول و جميل من السبك واللفظ، فخلع اللباب المفتونين و قلقل أفكار المتقين وإن من البيان لسحرا.
كما قال ربنا جل وعلا عن شياطين الأنس والجن: (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا).
قال ابن عباس - رضى الله عنه -: يحسّن بعضهم لبعض القول ليتبعوهم في فتنتهم.
و قال مجاهد - رحمه الله -: تزيين الباطل بالألسنة.
وحكي عن ابن زيد قال: الزخرف المزين حيث زين لهم هذا الغرور كما زين إبليس لآدم ما جاء به، وقاسمه أنه لمن الناصحين.
وكنت قد زورت في نفسي كلاما كثير حتى ذكرت كلاما للجاحظ وهو من أرباب اللسان و اصحاب البيان، - وإن كان هو في نفسه ممن يحذر منه لهذا السبب خاصة -، أقول كنت قد زورت في نفسي كلاما كثير حتى وقفت على كلام من مقوله ومنقوله يتقاصر عنده هذا المزور في نفسي فآثرت نقله للأنتفاع به قال في البيان والتبين:
(وقال بعض الرَّبانيِّين من الأدَباء وأهلِ المعرفة من البلغاء ممَّن يكره التَّشادُق والتعمّق ويُبغض الإغراق في القول والتكلُّفَ والاجتلاب، ويعرف أَكثرَ أدواء الكلام ودوائه وما يعتري المتكلِّم من الفتنة بحِسن ما يقول، وما يعرض للسامع من الافتتان بما يسمع والذي يورث الاقتدارُ من التهكُّم والتسلُّط، والذي يمكن الحاذق والمطبوع من التمويه للمعاني والخِلابة وحسن المنطق فقال في بعض مواعظه:
أُنذِرُكم حُسنَ الألفاظ وحلاوةَ مخارج الكلام فإنَّ المعنى إذا اكتسى لفظاً حسناً وأعاره البليغُ مَخرجاً سهلاً ومنحه المتكلم دَلاًّ مُتَعشَّقاً صارفي قلبك أحْلى ولصدرك أمْلا والمعاني إذا كُسِيت الألفاظَ الكريمة وألبست الأوصافَ الرفيعة وتحوَّلت في العيون عن مقادير صُوَرها وأرْبَتُ على حقائق أقدارها بقَدْرِ ما زُيِّنت وحَسَبِ ما زُخرِفت فقد صارت الألفاظ في معاني المعارض وصارت المعاني في معنى الجواري والقلب ضعيفٌ وسلطانُ الهوى قويٌّ ومَدخل خُدَع الشيطان خفيّ فاذكر هذا الباب ولا تنسَه ولا تفرِّط فيه، فإنّ عمر بن الخطاب رحمه اللَّه لم يَقُلْ للأحنف بن قيس - بعد أن احتبسه حَوْلاً مُجَرَّماً ليستكثر منه وليبالغ في تصفُّح حالِه والتنقير عن شأنه -:
إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد كان خوّفَنا كلَّ منافِقٍ عليم وقد خِفْتُ أن تكون منهم، إلاّ لما كان راعَه مِن حُسن منطقه ومالَ إليه لما رأى من رِفقه وقلة تكلُّفه ولذلك قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إنّ مِن البيان لسحراً). انتهى المراد منه.
والشواهد في هذا الباب كثيرة و الخلاصة في هذا أن يكون المؤمن على حذر من زخرفة القول وأن ينظر الى حقائق الأمر وأن لا يغتر بما يكتسى المعنى من جميل حلل اللفظ وبديع الكلام وحسن العبارة بل يتأمل في حقيقته.
وهذا الباب يمكن اصطناعه واصطحابه حتى في الفقه و الأحكام بله العقائد والأديان.
فهذا أول أسباب الغواية عن الحق وهو الأفتتان بزخرف القول و الغفلة عن معناه.
وأما السبب الثاني: فهو التعرض للباطل بالنقض قبل فهم أصول الحق، وهو باب من البلاء عظيم وياتي ذكره و بيان رسمه ووسمه إن شاء الله تعالى.
¥