حُكْمُ بَيْعِ الْوَفَاءِ
ـ[وهج البراهين]ــــــــ[10 - 01 - 03, 11:32 ص]ـ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِبَيْعِ الْوَفَاءِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إلَى: أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ فَاسِدٌ , لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْبَائِعِ أَخْذَ الْمَبِيعِ إذَا رَدَّ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْبَيْعِ وَحُكْمَهُ , وَهُوَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ. وَفِي هَذَا الشَّرْطِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ , وَلَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ مُعَيَّنٌ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ , فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا يَفْسُدُ الْبَيْعُ بِاشْتِرَاطِهِ فِيهِ. وَلِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْوَفَاءِ , وَإِنَّمَا يُقْصَدُ مِنْ وَرَائِهِ الْوُصُولُ إلَى الرِّبَا الْمُحَرَّمِ , وَهُوَ إعْطَاءُ الْمَالِ إلَى أَجَلٍ , وَمَنْفَعَةُ الْمَبِيعِ هِيَ الرِّبْحُ , وَالرِّبَا بَاطِلٌ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ جَائِزٌ مُفِيدٌ لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ , وَهُوَ انْتِفَاعُ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ - دُونَ بَعْضِهَا - وَهُوَ الْبَيْعُ مِنْ آخَرَ. وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذَا الشَّرْطِ تَعَارَفْهُ النَّاسُ وَتَعَامَلُوا بِهِ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ , فِرَارًا مِنْ الرِّبَا , فَيَكُونُ صَحِيحًا لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ بِاشْتِرَاطِهِ فِيهِ , وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقَوَاعِدِ , لِأَنَّ الْقَوَاعِدَ تُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ , كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ.
وَذَهَبَ أَبُو شُجَاعٍ وَعَلِيٌّ السُّغْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَاتُرِيدِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى: أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ رَهْنٌ وَلَيْسَ بِبَيْعٍ , فَيَثْبُتُ لَهُ جَمِيعُ أَحْكَامِ الرَّهْنِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ , وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ أُجْرَتُهُ , كَالرَّاهِنِ إذَا اسْتَأْجَرَ الْمَرْهُونَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ , وَيَسْقُطُ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ وَلَا يَضْمَنُ مَا زَادَ عَلَيْهِ , وَإِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ كَانَ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ. وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي , لَا لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي. وَلِهَذَا كَانَتْ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَيْعًا , وَكَانَتْ الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةً , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْفِقْهِ. وَهَذَا الْبَيْعُ لَمَّا شُرِطَ فِيهِ أَخْذُ الْمَبِيعِ عِنْدَ رَدِّ الثَّمَنِ كَانَ رَهْنًا , لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُؤْخَذُ عِنْدَ أَدَاءِ الدَّيْنِ. قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ مُفِيدٌ لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ مِنْ حِلِّ الِانْتِفَاعِ بِهِ , إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي بَيْعَهُ , قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي الْإِكْرَاهِ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
الثَّانِي: الْقَوْلُ الْجَامِعُ لِبَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّهُ فَاسِدٌ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ حَتَّى مَلَكَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْفَسْخَ , صَحِيحٌ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَحِلِّ الْإِنْزَالِ وَمَنَافِعِ الْمَبِيعِ , وَرَهْنٌ فِي حَقِّ الْبَعْضِ حَتَّى لَمْ يَمْلِكْ الْمُشْتَرِي بَيْعَهُ مِنْ آخَرَ وَلَا رَهْنَهُ وَسَقَطَ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ. فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْعُقُودِ الثَّلَاثَةِ , كَالزَّرَافَةِ فِيهَا صِفَةُ الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ وَالنَّمِرِ , جُوِّزَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْبَدَلَيْنِ لِصَاحِبِهِمَا , قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْدَلَ فِي الْإِفْتَاءِ عَنْ الْقَوْلِ الْجَامِعِ. وَفِي النَّهْرِ: وَالْعَمَلُ فِي دِيَارِنَا عَلَى مَا رَجَّحَهُ الزَّيْلَعِيُّ.
وَقَالَ صَاحِبُ بُغْيَةِ الْمُسْتَرْشِدِينَ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ: بَيْعُ الْعُهْدَةِ صَحِيحٌ جَائِزٌ وَتَثْبُتُ بِهِ الْحُجَّةُ شَرْعًا وَعُرْفًا عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِهِ , وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِكَرَاهَتِهِ , وَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي غَالِبِ جِهَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنٍ قَدِيمٍ وَحَكَمَتْ بِمُقْتَضَاهُ الْحُكَّامُ , وَأَقَرَّهُ مَنْ يَقُولُ بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ , مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ , وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ مَنْ اخْتَارَهُ وَلَفَّقَهُ مِنْ مَذَاهِبَ , لِلضَّرُورَةِ الْمَاسَّةِ إلَيْهِ , وَمَعَ ذَلِكَ فَالِاخْتِلَافُ فِي صِحَّتِهِ مِنْ أَصْلِهِ وَفِي التَّفْرِيعِ عَلَيْهِ , لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إلْمَامٌ بِالْفِقْهِ.