فإن قيل فما لنا نراك تستدل على براءة أبي الزبير من التدليس بإخراج جماعة من المصنفين له في كتبهم التي فيها الصحيح والحسن وبعض الضعيف القليل؟.
أجيب بالآتي:
1. إنني لم أستدل بإخراج كل كتاب لأبي الزبير بمفرده، ولكن الاستدلال بالهيئة المجموعة من اتفاق كل هؤلاء المصنفين على إخراج حديثه. فكل كتاب يعتبر عندي جزء حجة، وإذا ضم كل كتاب لآخر و هكذا حصلت لنا الحجة والاطمئنان إلى احتجاجهم بحديثه معنعناً.
2. إنني ما ذكرت أي أمثلة، كلا بل ذكرت أمثلة تدل على قبول الأئمة الحفاظ ـ وهم أهل الفن وأئمته ـ لعنعنته.فلك أن تقول إن ما رواه أبو الزبير معنعناً هو صحيح على شرط ابن خزيمة وابن حبان والمنتقى في صحاحهم المصنفة على شرط الصحيح. ويصححه الترمذي ويسكت عنه أبو داود مع المنذري فهو صالح عندهما، وكم احتج الحفاظ بسكوت المنذري مع أبي داود ([17]).وهو صحيح على رأي من أطلق على المجتبى الصحيح،ويصححه من صنف في أحاديث الأحكام كالطحاوي والدارقطني.
أضف إلى كل السابقين الإمام مسلماً رحمه الله تعالى ومن وافقه على تصحيح كتابه من مشايخه أو أصحابه كأبي زرعة، و أحمد بن حنبل، وابن معين، وعثمان بن أبي شيبة،وسعيد بن منصور. وبعد كل ما سبق لا يمكن لك أن تنفصل إلا على تصحيح حديث أبي الزبير مطلقاً فأي بيان بعده، وأي حجة، وأي دليل لرمي أبي الزبير بالتدليس؟!.اللهم إلا من وهم وتعلق بالظن الذي لا يغني من الحق شيئاً.
فشد بيدك على هذا الذي ذكرته، واعلم أن إطلاق التدليس عليه من باب التوارد المعروف في كتب الجرح والتعديل وله أمثلة كثيرة.وإذا رأيت من اتهمه بالتدليس فاعرض كلامه على ما كتبت، وستجد الحق أبلج إن شاء الله تعالى. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
تنبيه:
لقائل أن يقول لم يخرج البخاري في صحيحه لأبي الزبير المكي ـ بالصورة العليا ـ بسبب تدليسه.
وهذا القائل يجاب عليه بأنه استنتج شيئاً لا دليل عليه فالبخاري لم يصرح بما قاله القائل. وهذا أولا.
ثانيا: أخرج البخاري في صحيحه لجماعة اشتهروا بالتدليس بل وأدرجُوا في المرتبة الثالثة منهم كحميد الطويل، وابن جريج، وأبو إسحاق السبيعي.
ثالثاً: الذي قاله أئمة هذا الشان: أن البخاري لم يخرج لأبي الزبير تبعاً لكلام شعبة فيه.
قال الحافظ عبد العزيز بن محمد النخشبي في فوائد الخيالي [ل/6] ما نصه:
"ولم يخرج محمد بن إسماعيل البخاري لأبي الزبير في الصحيح شيئاً لأن أبا الزبير تكلم فيه شعبة، وقال: رأيته يتزن لنفسه فاسترجع فترك حديثه لأجل هذا، ولم يحدث عنه إلا حديثاً واحداً،فتركه البخاري متابعة لشعبة، غير أن أبا الزبير حديثه مشهور صحيح وهو حافظ متقن".اهـ.
فصل
ولئن سلمنا أن أبا الزبير كان يدلس، فتدليسه عن جابر فقط، ومن أطلق عليه التدليس عليه بالدليل، وعلى هذا يعتبر التصريح بالسماع في حديثه عن جابر فقط من رواية الليث. أما حديثه عن غير جابر فلا يحتج إلى تصريح بالسماع. قال مسلم في مقدمة صحيحه [1/ 137]:"إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به فحينئذ يبحثون عن سماعه".اهـ.
وأبو الزبير لم يكن ممن اشتهر بالتدليس وعرف به، فيبقى على البراءة الأصلية، خاصة مع قول الحاكم في معرفة علوم الحديث [ص 111]:"أهل الحجاز والحرمين ومصر والعوالي ليس التدليس من مذهبهم ".اهـ.
ويقول الإمام الشافعي:"لم يعرف التدليس ببلدنا فيمن مضى، ولا من أدركنا من أصحابنا إلا حديثا".اهـ. كذا في شرح علل الترمذي [ص 226].
فالشافعي رحمه الله تعالى مع إمامته وتقدمه في العلم هو مكي وأعلم بأهل بلده من غيره وهذا نص منه، فإن وجد التدليس في بعض أهل مكة المكرمة كان في رواة قليلين جداً بدون شهرتهم بذلك. فكلام الشافعي رغم تشدده في إطلاق وصف التدليس على الراوي بمرةٍِ واحدة مشعر بعدم شهرة أحد من أهل مكة بالتدليس والله أعلم.
فإذا جاء ما يدل على تدليسه, طلب السماع في روايته عمن يدلس عنه فقط لأنه لم يكن مشهوراً بالتدليس عن الناس، بل أمره ضيق محصور في جابر، ويؤيد ذلك قول الشافعي والحاكم وقد مر, وهذا معمول به عند المحدثين فإنهم إذا ذكروا راويا يدلس عن شيخ معين, قبلوا حديثه غير مصرّح بالسماع في غير شيخه الذي دلس عنه.
¥