المشربيات واحدة من العناصر المعمارية التي استوحاها الفنان المسلم من شريعته الغرَّاء الإسلام، فقد ساهمت العقيدة الإسلامية والنظم الاجتماعية بما تتضمنه من قيمٍ وتعاليم في خصائص العمارة، وفي مقدمة هذه الخصائص الحفاظ على الخصوصية للأسرة المسلمة؛ باعتبارها لبنةَ المجتمع، وذلك بعمل نوافذ تطلُّ على الشارع ثم معالجتها باستخدام المشربيات لتضفي على تصميم البيوت طابعًا خاصًّا من التستر والمحافظة على حرمة الأسرة وحماية أهل المنزل من عيون المارَّة في الشوارع والطرقات، وكذلك من عيون أهل المنازل المقابلة.
فالمشربيات المصنوعة من خشب الخرط على هيئة سواتر تمكِّن مَن خلفها من رؤية الشارع وليس العكس، والأغرب- ولشدَّة الحرص على التستر- أنه لم يكتفِ بوجود المشربيات مطلةً على الشوراع ولكنها أيضًا وُجدت داخل المنزل مطلَّةً على الفناء الداخلي ليحتميَ مَن خلفها بين عيون الغرباء أثناء زيارتهم صاحب المنزل، وهو ما يؤكد مدى الحرص على تطبيق شريعة الله في الحرص على خصوصية وحرمة الأسرة.
وظيفة مناخيَّة
تُعتبر المشربيات من أهم المعالجات المعمارية للبيئة المناخية في البلاد الإسلامية ذات المناخ الحارّ، فقد ساهمت في تلطيف حدة الضوء من واقع البرامق وما تحققه من انزلاق للهواء على سطحها وما تعطيه من تهوية جيدة، فمن مميزات المشربيات تقليل نسبة الأشعة المارَّة من خلالها وكسرها، فتدخل غرف المنزل وقاعاته هادئةً، كما تساهم المشربية في ضبط مرور الضوء من خلال التخفيف من حدَّة أشعة الشمس المباشرة وغير المباشرة، فمن خلال أحجام وحدات الخرط الخشبي للمشربية والفراغات الموجودة بينها يتم التحكُّم في مرور الضوء، وقد أوضحت بعض القياسات التي أجراها أحد الباحثين على مشربية بقاعة الحريم ببيت السحيمي مدى تأثير الخرط الخشبي الموجود بالمشربية على تقليل شدة الإضاءة داخل الحجرة.
المشربيات .. مكيفات المنازل قديمًا
ومن فوائد المشربية أيضًا ضبط تدفُّق الهواء، فعن طريقها يمكن التحكُّم في سرعة الهواء وتدفقه داخل الحيِّز الداخلي للمنزل، وذلك باختلاف فراغات المشربية في الأجزاء السفلية والأجزاء العليا؛ حيث نجدها ضيقةً في الأجزاء السفلية من المشربية ومتسعةً في الأجزاء العلوية، كما أن الأسطح الكروية لعناصر الخرط تحقِّق انزلاقًا للهواء عليها؛ مما يعطي تهويةً جيدةً أكثر مما إذا كانت هذه الأسطح مربعةً أو مستطيلةً، كما أن بروز المشربية عن مستوى الحائط يُتيح لها التعرضَ لتيارات الهواء الموازية لواجهة المنزل.
ومن فوائدها أيضًا ضبط رطوبة تيار الهواء المارّ من خلالها إلى داخل المنزل أو الحجرة لطبيعة المادة المصنوعة منها وهي الخشب، فهو مادة مسامية طبيعية مكوَّنة من ألياف عضوية تمتص الماء وتحتفظ به، ولكن يُشترط لكي تقوم المشربية بأداء هذه الوظيفة ألا يتم طلاؤها بمواد تقوم بسدِّ مسام الخشب الطبيعية، وكانت المشربية تُزوَّد بضُلَف مصمتة من الخشب أو الزجاج لاتقاء برودة الشتاء، وبهذا تكون المشربية قد أدَّت وظيفتها في التحكم في تدفق الهواء إلى داخل المبنى صيفًا وشتاءً.
كما تقوم المشربية بتوزيع الضوء بواسطة وحداتها أو التقليل من شدة الاستضاءة لسطح النافذة للحصول على سطح متجانس ضوئيًّا وليس مبهرًا، وللاستفادة من فوائد المشربية في تدفُّق الهواء البار; د خُصِّصت بها أماكن كما قلنا لوضع أوني الشرب الفخارية (القلل) .. هذه كلها مَيزات لا توجد في النوافذ ذات الزجاج المستخدمة حاليًا، ويا ليتنا نعود لزمن المشربية الجميل!!
القيم الجمالية
وصل فن صناعة المشربية درجةً كبيرةً من الاتقان، خاصةً في مصر؛ حيث وَجد الفنَّان والنجَّار المسلم في المشربيات مجالاً خصبًا لإبراز مقدرته الهندسية والفنية والزخرفية؛ حيث اكتسبت مزيدًا من الرَّوعة ومظهرًا من مظاهر العظمة، وأضْفَت على واجهات المنازل الإسلامية حيويةً وبُعدًا عن رتابة المنظر بما تحتوي عليه من عناصر زخرفية بديعة، فكانت أحيانًا تُملأ بقطع من الخشب؛ بحيث تؤلف أشكالاً زخرفيةً من الزخارف النباتية والهندسية وبعض أشكال الطيور، فضلاً عن بعض الكتابات، ككلمة "الله" أو "بسم الله الرحمن الرحيم"، كما كان للفنان لمساته الفنية وصنعته الماهرة في التوظيف الهندسي لأشكال الخرط الدقيق، فجعله على هيئة مكعبات صغيرة دقيقة أو كرات خشبية أو بشكل مستطيلات ومربعات صغيرة يربط بينها أعواد خشبية أفقية ورأسية متقاطعة.
لماذا فقدنا المشربية؟
نحب أن نؤكد أن للمشربية نفعًا علميًّا وقيمةً جماليةً كما أوضحنا آنفًا، فلماذا إذن فقدنا دورها كعنصر عملي وجمالي في العصر الحاضر؟!
فالمشربية تُعتبر الآن من الضرورات الواجبة، خاصةً بعد زيادة الكثافة السكانية ووجود العمائر المتقابلة الكاشفة للعورات؛ حيث تعتمد في إضاءتها وتهويتها على فتحات النوافذ الخارجية على الشوارع وليست على الأفنية والأحواش الداخلية كما كان الحال في السابق.
ولذلك فالمشربية تُعتبر- وكما كانت من قبل- حلاًّ مقبولاً وعمليًّا لتحقيق الخصوصية والمحافظة على عورات البيوت وحرمتها، وقد تعلَّل الكثير بارتفاع تكلفة صناعة المشربية، ولكن تم التغلب على ذلك باستخدام خامات بديلة ورخيصة الثمن كخشب النخيل (الجريد) كما كانت طريقة الخشب وذلك بخرطها وتجميعها ثم يتم الاستفادة بهذه القطع مهما صغر حجمها، وهذا ما كان يستخدم في السابق؛ حيث كان الصانع يستفيد من فضلات الأخشاب المتبقية من عمل الأثاث أو الأسقف أو الأبواب والنوافذ وغيرها في صناعة المشربية.
إذن الأمر يتعلق بإقبال الناس على الاتجاهات المعمارية الغربية الوافدة والتي تتنافى مع معتقداتنا وبيئتنا الحارَّة، ألم يأنِ لنا أن نُحييَ تراثنا الجميل؟!
-------
* ماجستير آثار إسلامية
http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=23173&SecID=293
¥