ومعلوم أن الفتوى بابها العلم، لا الظن، والتخرص، ثم أيضاً: تأويل الرؤى ليس من العلم العام الذي يحسن نشره بين المسلمين ليصححوا اعتقاداتهم وأعمالهم، بل هي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مبشرات، وكما قال بعض السلف: الرؤيا تسر المؤمن، ولا تغره هذا، وإن التوسع في باب تأويل الرؤيا - حتى سمعنا أنه يخصص لها في القنوات الفضائية، وكذلك على الهواتف، وفي الصحف، والمجلات، والمنتديات العامة من المنتجعات، وغيرها أماكن خاصة بها؛ جذباً للناس، وأكلاً لأموالهم بالباطل -: كل هذا شرٌّ عظيم، وتلاعب بهذا العلم الذي هو جزء من النبوة، قيل لمالك رحمه الله: أيعبر الرؤيا كلُّ أحدٍ؟ فقال: أبالنبوة يُلعب؟! وقال مالك: لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيراً أخبر به، وإن رأى مكروهاً: فليقل خيراً، أو ليصمت، قيل: فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه لقول من قال: إنما على ما أولت عليه؟ فقال: لا، ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة.
فيجب على المسلمين التعاون في منع هذا الأمر، كلٌّ حسب استطاعته، ويجب على ولاة الأمور السعي في غلق هذا الباب؛ لأنه باب شر، وذريعة إلى التخرص، والاستعانة بالجن، وجر المسلمين في ديار الإسلام إلى الكهانة، والسؤال عن المغيبات، زيادة على ما فيها من مضار لا تخفى، من إحداث النزاعات، والشقاق، والتفريق بين المرء وزوجه، والرجل وأقاربه وأصدقائه، كل هذا بدعوى أن ما يقوله المعبر هو تأويل الرؤيا، فيؤخذ على أنه حق محض لا جدال فيه، وتُبنى عليه الظنون، وهذا من أبطل الباطل، كيف وصدِّيق هذه الأمة، بل خير البشر بعد الأنبياء والمرسلين لمَّا عبر الرؤيا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصبتَ بعضاً وأخطأت بعضاً)، ونحن لا نعلم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم خير القرون وأحرصهم على هدي نبينا صلى الله عليه وسلم وأتقاهم لله وأخشاهم له، لا نعلم أنهم عقدوا مجالس عامة لتأويل الرؤى، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وإني إبراءً للذمة، ونصحاً للأمة: لأحذر كل من يصل إليه هذا البيان، من التعامل مع هؤلاء، أو التعاطي معهم، والتمادي في ذلك، بل الواجب مقاطعتهم، والتحذير من شرهم، عصمنا الله وإياكم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وألزمنا وإياكم كلمة التقوى، ورزقنا اتباع سنة سيد المرسلين واقتفاء آثار السلف الصالحين، وحشرنا وإياكم في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً " انتهى.
مقال " تأويل الرؤى والحذر من التوسع فيها " ضمن " مجلة البحوث الإسلامية " (67/ 16 – 18).
ثالثاً:
أما بخصوص وقوع الرؤيا بالتعبير: ففي المسألة أحاديث أشهرها:
1. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اعْتَبِرُوهَا بِأَسْمَائِهَا، وَكَنُّوهَا بِكُنَاهَا، وَالرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ).
رواه ابن ماجه (3915)، والحديث ضعفه كثيرون؛ ففي إسناده: يزيد بن أبان الرقاشي، وهو ضعيف.
2. عَنْ أَبِى رَزِينٍ العُقيلي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ) قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: (وَلاَ يَقُصُّهَا إِلاَّ عَلَى وَادٍّ أَوْ ذِي رَأْيٍ).
رواه الترمذي (2278) وأبو داود (5020) وابن ماجه (3914)، وحسَّنه ابن حجر في " فتح الباري " (12/ 432)، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
وقد رأى بعض العلماء أن هذه الأحاديث منكرة المتن – مع ما في أسانيدها من كلام -، ولذلك ذهبوا إلى تضعيفها، وأنها مخالفة لحديث أبي بكر الصدَّيق عندما أخطأ في بعض التعبير أمام النبي صلى الله عليه وسلم.
والصواب: أن الحديث الثاني حسن، أو صحيح، وأنه ليس في متنه نكارة، وأن معناه: أن الرؤيا يقع تعبيرها إذا عبَرها من أصاب، لا من أخطأ.
ومن عظيم فقه البخاري رحمه الله أنه بوَّب على حديث أبي بكر رضي الله قولَه: " باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب ".
وروى الحديث وفيه قول أبي بكر رضي الله عنه: فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَصَبْتَ بَعْضاً وَأَخْطَأْتَ بَعْضاً).
رواه البخاري (6639) ومسلم (2269).
وهذا المعنى هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء والشرَّاح.
قال الزمخشري: " ليس المعنى أن كل من عبَرها وقعت على ما عَبَر، ولكن إذا كان العابر الأول عالماً بشروط العبارة، فاجتهدَ، وأَدَّى شرائطها، ووُفق للصواب، فهي واقعةٌ على ما قال، دونَ غيره " انتهى.
" الفائق في غريب الحديث والأثر " (3/ 281).
وفي فوائد حديث أبي بكر قال النووي – رحمه الله -: " وأن الرؤيا ليست لأول عابر على الإطلاق، وإنما ذلك إذا أصاب وجهها " انتهى.
" شرح مسلم " (15، 30).
وقال ابن بطَّال – رحمه الله -:
" وقال أبو عبيد وغيره من العلماء: تأويل قوله: (الرؤيا لأول عابر): إذا أصاب الأول وجه العبارة، وإلا فهي لمن أصابها بعده، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب فيما يرى النائم، ليوصل بذلك إلى مراد الله بما ضربه من الأمثال في المنام، فإذا اجتهد العابر وأصاب الصواب في معرفة المراد بما ضربه الله في المنام: فلا تفسير إلا تفسيره، ولا ينبغي أن يسال عنها غيره، إلا أن يكون الأول قد قصر به تأويله فخالف أصول التأويل، فللعابر الثاني أن يبين ما جهله، ويخبر بما عنده، كما فعل النبي عليه السلام بالصدِّيق فقال: (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً)، ولو كانت الرؤيا لأول عابر سواء أصاب أو أخطأ: ما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (وأخطأتَ بعضاً) " انتهى.
" شرح صحيح البخاري " (9/ 560، 561).
والله أعلم
الإسلام سؤال وجواب
http://www.islamqa.com/ar/ref/117665
¥