مع إمام؛ فقرأ: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى) حتى بلغ: (تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)
[القصص] , فلا والله؛ ما وجدت أخلق به منها, فيمن خالطت وجالست, على أننا لا نتحجّر واسعاً, والخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة.
قبل عشرين سنة (1410هـ) بدأني هو بالزيارة، وسهر في بيتي مع ثلّة من أبنائه الصغار, الذين يسميهم (مشايخ) بكل عفوية وصدق
وبات عندي، فلم أر معه لباساً غير ثوبه الذي على ظهره، ولا منشفة؛ فيكفيه أن ينفض الماء عن يديه أو عن بدنه، يصدق عليه حديث
رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «الْبَذَاذَةُ مِنَ الإِيمَانِ»
كما عند أبي داود وابن ماجه وأحمد، والحاكم.
لا يفكّر في الطعام الذي تقدّمه له، إن كان مفاطيح، أو كان معلّبات، على أنه كريم حق كريم. ولا يخطر في باله إن كان الذي استقبله بالغ
في الحفاوة، أو عامله بجفاء، هو نمط مختلف، تجرّدت نفسه من حظّ نفسه فلا يرى لنفسه على أحد حقاً، بيد أنه قوّام بحقوق الناس على
أكمل الوجوه. تراه؛ فيبادرك ويعانقك، وربما حاول أن يقبل رأسك، لكن هيهات أن يرضى بتقبيل رأس أو يد؛ بل ينفر من ذلك, دون تصنّع.
دخل المجلس مرّات؛ فألقى السلام على من حوله, وقعد في طرف المجلس متسللاً مستخفياً , لا يحب أن يعلم به أحد فإذا نذروا به,
فقاموا إليه, وقدموه؛ تباطأ وتلكّأ , وسايرهم على مضض. لا تجد في لغته: ونرى، ونقول، والذي نختاره، وعندنا، قلت؛ وليس أسهل عليه
من أن يعدل عن قوله إلى قول غيره. لا أقول يرجع إلى قول ابن باز , حين اتصل به , وطلب إليه العدول عن اجتهاده أو رأيه في مسألة
ما (ولديّ من ذلك حالات وأمثلة)، ولا أعني رجوعه بناءً على تنبيه من أكابر المشايخ وأهل العلم؛ لقد أدهشني مرة أن كان بالرّس فسُئل
عن مسألة المساهمة في الشركات التي فيها نسبة قليلة من الربا, وأصل نشاطها مباح، فقال: كنت قلت بتحريمها ثم قرأت جواب فلان , وأنا الآن
أقول به .. وسمى عبداً مثلي, لا يصلح أن يكون من تلاميذه. رأيت الإمام يلقننا نكران الذات، وتمام التجرّد، ونسيان النسيان، على أننا ونحن
نتذكره؛ نبحث عن موطئ قدم لنثني على ذواتنا، ونتحدث عن ذكرياته معنا، وثنائه علينا، هو كان يدرسنا حياً، وهو الآن يوبخنا ميتاً:
وكانت في حياتك لي عظات وأنت اليوم أوعظ منك حيا! وفي حديث حارثة بن وهب – رضي الله عنه -قال: قال قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-:
«ألا أخّبْرُكم بأهل الجنَّة؟ قالوا: بلى، قال: كلُّ ضعيف متضَعِّف, لو أقْسمَ على الله لأبرَّه». رواه البخاري ومسلم. ولعل من علامات القبول والتوفيق
أنني بينما أكتب هذا الحديث؛ جاءتني رسالة بالجوال فيها؛ يقول صلى الله عليه وسلم: «حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ».
رواه أحمد والترمذي .. ويقول عليه الصلاة والسلام: ((أنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ في الأَرضِ))
وهو حديث متفقٌ عَلَيْهِ. والذين عرفوا الشيخ عن كثب, أو جالسوه, يُطْبِقُون على أنه سهل قريب، الوصول إليه سهل، والانتفاع به سهل
والتعلم منه سهل، وإقناعه سهل. نعم؛ هو متواضع، على أن التواضع يوصف به من يعرف أنه رفيع, ولكنه يوطّن نفسه على مرتبة أقل
من قدره أما هو فهو غفل عن منزلته، وكأن ذاكرة الذات منزوعة من برنامجه أصلاً، وليست ممسوحة المادة! من سهولته بذله العلم
لكل أحد، منذ ستين سنة، يدرّس الثلاثة والأربعة، بكامل الهمة والإخلاص واستحضار العبودية، ويدرس الآلاف في دورة أو محاضرة فلا
يراهم، إنما يرى الثلاثة أو الأربعة القريبين منه، حتى نبرة الصوت واحدة، والأداء واحد. لست أشكّ أنه أكثر العلماء اليوم تجاوباً ومشاركة
في المناشط والدروس والدورات في المدن والقرى والأرياف والمراكز والمساجد، تستجيب للطفل الصغير، وللشيخ الكبير، وللأمير وللفقير.
ومن سهولته أنه يستوعب المستجدّات والمتغيرات، ويوظف الأدوات الحديثة للدعوة، من يوم أن كان البريد العادي هو الوسيلة الفعّالة، إلى
¥