قلت: لكن هذا هو المشهور عند أهل السير، أن بلالا لم يؤذن لغير النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تواتر أيضا أن بلالا كان يوتر الإقامة، ذكره أنس بن مالك وسعد القرظ وابن عمر وجابر وأبو جحيفة وأبو رافع وأبو هريرة وبريدة وعبد الله بن زيد وسلمة بن الأكوع وغيرهم، فأقل أحوال هذا الأثر أن يكون شاذًّا -إن لم نقل منكرًا-؛ لمخالفته رواية الثقات الأثبات، والله أعلم.
وأما الشاهد الرابع: ففيه نظر من وجوه:
أولا: تفرد حماد وهو ابن أبي سليمان به عن إبراهيم، وحماد وإن كان من أهل الصدق ففيه كلام معروف، قال شعبة: كان حماد بن أبى سليمان لا يحفظ، وقال أبو حاتم: صدوق لا يحتج بحديثه، ولذلك قال فيه ابن حجر: صدوق له أوهام ورُمي بالإرجاء.
ثانيا: احتمال تدليسه أو خطئه، فمع شهرة حماد بالرواية عن إبراهيم، لكن قال حماد بن سلمة: كنت أقول له: قل: سمعت إبراهيم. فكان يقول: إن العهد قد طال بإبراهيم، وقال حبيب بن أبى ثابت: كان حماد يقول: قال إبراهيم. فقلت: والله إنك لتكذب على إبراهيم، أو إن إبراهيم ليخطئ، وذكر الشافعي أن شعبة حدث بحديث عن حماد عن إبراهيم قال: فقلت لحماد: سمعته من إبراهيم؟ قال: لا، أخبرني به مغيرة بن مقسم عنه.
ثم وجدت متابعا له وهو أبو معشر، أخرجه عبد الرزاق عن الثوري عنه، وأبو معشر ثقة؛ لكن قال أحمد: كانوا يرون أن عامة حديث أبى معشر عن حماد، وسئل عن حديث أبي معشر عن إبراهيم فقال: يقولون كان يأخذه عن حماد. فرجع الحديث مرة أخرى إلى حماد بن سليمان وفيه ما فيه.
وقد خولفا في ذلك فرُوِيَ هذا الأثر عن إبراهيم عن بلال ليس فيه الأسود، وهو أصح، قال البيهقي: وإبراهيم عن بلال مرسل.
ثالثا: الأسود بن يزيد تابعي مخضرم ثقة جليل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم مسلما ولم يره، لكن قال البيهقي: والأسود بن يزيد لم يدرك أذان بلال، وقال ابن الجوزي في "التحقيق": والأسود لم يدرك بلالا، ورده صاحب "التنقيح" بقوله: وفيما قاله نظر وقد روى النسائي للأسود عن بلال حديثا.
قلت: لكن بلال لم يؤذن لغير النبي صلى الله عليه وسلم -على الراجح-، وقد مضى قريبا، فأقل أحوال هذا الأثر أيضا أن يكون شاذًّا؛ لمخالفته رواية الثقات الأثبات، وجزم ابن حبان أن بلالا ما أقام مثنى مثنى قط إنما كانت إقامته فرادى، وهو الحق؛ فيكون الأثر منكرًا، والله أعلم.
وأما الشاهد الخامس: فقد تفرد به زياد البكائي عن إدريس الأودي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه، وزياد ثقة في المغازي وفي مغازي ابن إسحاق خاصة، وأما في غيرها ففيه كلام، قال يحيى بن معين: لا بأس به في المغازي، وأما في غيره فلا، وقال أيضًا: ليس بشيء، و كان عندي في المغازي لا بأس به، وقال أبو داود: سمعت يحيى بن معين يقول: زياد البكائي في ابن إسحاق ثقة، كأنه يضعفه في غيره.
وخبره هذا غير ثابت؛ قال ابن حبان في المجروحين: وهذا خبر باطل، ما أقام بلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثنى مثنى قط، إنما كانت إقامته فرادى، وهذا الخبر رواه الثوري والناس عن عون بن أبى جحيفة بطوله ولم يذكروا فيه تثنية الإقامة. وإنما قالوا خرج بلال فأذن فقط.
قلت: وقد ذكره البيهقي في المعرفة من طريق محمد بن إسحاق، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: «كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثنى مثنى، والإقامة فرادى» وتابعه الثوري وغيره عن عون كما قال ابن حبان.
وهذا أصح من حديث زياد البكائي، وهو ما يؤكد نكارته.
وأما الشاهد السادس: فقد تفرد به إسماعيل بن عياش عن عبد العزيز بن عبيد الله عن عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن بلال، وعبد العزيز بن عبيد الله، قال يحيى بن معين: ضعيف، لم يحدث عنه إلا إسماعيل بن عياش، وقال أبو حاتم: لم يرو عنه أحد غير إسماعيل بن عياش، ضعيف منكر الحديث، وقال أبو زرعة: مضطرب الحديث واهي الحديث، وقال الجوزجاني: غير محمود في الحديث، وقال أبو داود: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه، وقال الدارقطني: حمصي متروك, والحديث ضعفه البخاري وابن حجر والشوكاني وغيرهم.
¥