إن المشركين ما كانوا يجبرون الرسل قبل مبعثهم على عبادة أصنامهم وإلا لوجدت العداوة بين المشركين وبين الرسل قبل أن يبعثوا، ولنقل ذلك.
بل في القرآن ما يدل على أن الرسل كانوا على وفاق مع أقوامهم قبل أن يأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، ومن أدلة ذلك قول قوم صالح عليه السلام [يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ] {هود:62}.
فهذه تزكية منهم لصالح عليه السلام، وثناء عليه إلى أن أمرهم ونهاهم، فرفضوه، وتنكروا له، وانقلبوا عليه.
ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام تحكي سيرته الخالدة أنه اجتنب المشركين وما يعبدون، وكان يتعبد لله تعالى في غار حراء، وما نُقل أن المشركين أنكروا ذلك عليه، أو ضايقوه في عبادته، أو ألزموه بشركهم. بل كان عليه الصلاة والسلام محل إعجابهم وثنائهم، وموضع تقديرهم وثقتهم؛ حتى إنهم كانوا يستودعونه أماناتهم، ويُحكِّمونه بينهم، ولقبوه بالأمين.
وكان في مكة قبل المبعث بعض الحنفاء الذين بقوا على دين إبراهيم عليه السلام، ومنهم من تنصر وقرأ الإنجيل بالعبرانية كورقة بن نوفل، وما عُرف أن أهل الشرك من كبار قريش كانوا يؤذونهم، أو يجبرونهم على الشرك، أو يحولون بينهم وبين عبادتهم.
كل هذا يدل على أن أكثر المشركين كانوا يتحلَّون بما يسمى في هذا العصر بالحرية الدينية أو الفكرية أو الشخصية، وما نقموا على من يوحد الله تعالى أن يوحده إذا لم يأمرهم أو ينههم.
كما يدل على أن الذي نقمه أكثر المشركين من رسلهم، وعارضوهم فيه، وآذوهم من أجله هو ما يسمى في هذا العصر بالتدخل في الخصوصيات، وهي التي أمر الشارع الحكيم رسله عليهم السلام أن يتدخلوا فيها بالأمر والنهي، فيأمروهم بكل معروف، وينهوهم عن كل منكر، وقد أنكر المشركون هذا الأمر والنهي بشدة، وحاربوا رسلهم من أجله، قال قوم شعيب عليه السلام له [أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ] {هود:87}.
فهم ما نقموا عليه إلا تدخله في خصوصياتهم، وتقييده لحرياتهم في عباداتهم وأموالهم، وهذا ما يرى المشركون أنه عين الإفساد لأقوامهم، كما قال فرعون أخزاه الله تعالى [ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ] {غافر:26}.
ولذا فإن الاحتساب على الناس، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، هو دين الله تعالى الذي جاءت به الرسل، وهو سبب العداوة بين أهل الحق وأهل الباطل منذ أن وجد على الأرض حق وباطل، وأهل الحسبة من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر في كل زمان ومكان هم أتباع الرسل، والمعارضون للحسبة والأمر والنهي الشرعيين هم أتباع المشركين، أعداء المرسلين، أو متشبهون بهم، أرادوا ذلك أم لم يريدوه.
المحتسبون هم أنصح الناس للناس:
أنصح الناس للناس هم أهل الحسبة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويأخذون على أيدي السفهاء؛ لأنهم يحفظون المجتمعات من الضلال والانحراف، ويمنعون تنزل العذاب والعقوبات.
ومن نظر في سير الأنبياء عليهم السلام ظهرت له تلك الحقيقة؛ إذ إن الأنبياء عليهم السلام وهم يحتسبون على أقوامهم كانوا يعلنون فيهم أن الدافع إلى احتسابهم عليهم هو النصح لهم ليس غير.
قال نوح عليه السلام وهو يدعو قومه [أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ] {الأعراف:62} وقال هود عليه السلام [أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ] {الأعراف:68} وقال صالح عليه السلام [يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ] وقال شعيب عليه السلام [يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ] {الأعراف:93}
¥