3 - مَعْرِفَةٌ باللغَةِ العربيَّة، و القَدْرُ الواجبُ معرِفَتُهُ منها هو ما يتمكَّنُ منه معرفةُ دلالاتِ الألفاظِ و معانيها عند النزاع و الخلاف.
4 - مَعْرِفَةُ مواقِعِ الإجماع، و عِلَّةُ هذه المَعْرِفَةِ التَّحَرُّزُ من القولِ بما يُخالِفُ الإجماع.
5 - مَعْرِفَةُ النَّاسخِ و المَنسوخ.
6 - مَعْرِفَةُ أصولِ الجَرْحِ و التعديل، و ذلك ليكُوْنَ كلامُهُ في الرجالِ مبنيَّاً على أصولٍ أصَّلَها القوم.
7 - مَعْرِفَةُ أصولِ الفِقْهِ، و هو واجبُ التَّعرُّفِ في حَقِّ المُجْتَهِد _ كما قاله شيخُ الإسلام _.
[راجع: التحبير شرح التحرير، 8/ 3865، البحر المحيط، 6/ 199].
قال الإمامُ الزرْكشي _ رحمه الله _: و الحاصلُ أنه لابدَّ أن يكون محيطاً بأدلة الشرع في غالب الأمر، متمكناً من اقتباس الأحكام منها، عارفاً بحقائقها و رُتَبِها، عالماً بتقديم ما يتقدم منها و تأخير ما يتأخر، و قد عبَّرَ الشافعي _ رحمه الله _ عن الشروط كلها بعبارةٍ وجيزةٍ جامعةٍ فقال: من عرف كتاب الله نصاً و استنباطاً استحقَّ الإمامةَ في الدين. ا, هـ. [البحر المحيط، 6/ 205].
فهذهِ شُرُوْطٌ قرَّرَها العُلماءُ في مَنْ لَه أهلِيَّةُ الحُكْمِ على نصوصِ الشَّرْعِ، فمتى كان تواجُدُها في العالمِ كان مُؤَهلاً لتلك الرُّتْبَة.
و متَى تَخلَّفَتْ كان له الأخذ بِقَوْلِ مَنْ نالَها و أدْرَكَها، و اعتَبَرَ العُلماءُ قَوْلَهُ وَ رَأْيَه.
إيقاظٌ: هذا كله في المجتهد المطلق. أما مَنْ يَجْتهدُ في بعض المسائل فإنما يحتاجُ إلى قوةٍ تامةٍ في النوع الذي هو مجتهدٌ فيه. [البحر المحيط، 6/ 205].
فَمِنَ الخيانة للعلم في مجال الطرح أن يتصدر للاستنباط من ليس أهلاً له، فيُفتي، و يُرجِّحُ، و يختارُ، و هو ليس بشيءٍ يُذكر في العلم.
و لم يذكر الفقهاء هذه الشروط عبثاً و لعباً، و إنما ذكروها صوناً للشريعة من عبَثِ عابثٍ، و لعب لاعبٍ، و من لم يَفْقَه مرادهم أساءَ بهم الظن، و حمَّلَ كلامهم مفاسدَ الظنون.
مسألةٌ: هل المجتهد المستقل موجودٌ الآن؟
باب الاجتهاد لم يُغْلَق و القول بإغلاقه صعبٌ جداً، و لكن المتأهل لرتبة الاجتهاد المستقل من الصعب وجودهم.
قال ابن الصلاح _ رحمه الله _: و منذُ دهرٍ طويلٍ طُويَ بساط المفتي المستقل المطلق، و المجتهد المستقل.ا, هـ. [أدب المفتي و المستفتي، ص 91، و مثله: النووي _ رحمه الله _: المجموع، 1/ 71، و ابن حمدان الحنبلي _ رحمه الله _، صفة المفتي و المستفتي، ص 17، و الزركشي _ رحمه الله _، البحر المحيط، 6/ 207. مهم].
فائدةٌ: قال ابن السمعاني: المفتي من استكملَ فيه ثلاث شرائط: الاجتهاد، و العدالةُ، و الكف عن الترخيص، و التساهل.
و للمتساهل حالتان:
إحداهما: أن يتساهل في طلب الأدلة و طرق الأحكام، و يأخذ بمباديء النظر و أوائل الفكر، فهذا مقصر في حق الاجتهاد، و لا يحل له أن يفتي، و لا يجوز أن يُسْتفتى.
و الثانية: أن يتساهل في طلب الرخص و تأوُّلِ الشُبَه، فهذا متجوز في دينه، و هو آثَمُ من الأول. ا، هـ. [البحر المحيط، للزركشي، 6/ 305].
تنبيهٌ: (الفقيه) و (المجتهد) و (المفتي) كلها بمعنى، فلا تفارق بينها، قال الزركشي _ رحمه الله _: (المفتي) هو: الفقيه. [السابق].
و انظر إلى حالِ أكثر من تصدَّرَ للاستنباط، و الإفتاءِ، و الاختيار، و الترجيح هل هو ممن تأهل للعلم على وَفْقِ ما قرَّرَه الفقهاءُ الأعلام؟.
إنما تَرَجُّلٌ في ميدان العلوم من غير كفاءةٍ، و تبصَّرْ كيف أصبحت الشواذُ العلمية تنبتُ لنا في كل آنٍ و حين.
و لو كان الأمرُ حكايةً لفتاوي أئمةٍ معتبرين على هذه الكفاءة الفقهية لكان الوقع هيناً، لكن الأمر أن زعمَ كلٌّ أن الأمر لا يعدوْ إلا أن يكون: هم رجال و نحن رجال، فصارع الأئمة، و ناقض الفتاوي، و صادم الأصول و القواعد، و ما يضر الجبل نطح الوعل.
ليسَ أمرُ الفُتْيا _ و هي من أمور المجتهد _ مقتصراً على معرفةِ آيةٍ و حديثٍ، و قولِ فقيهٍ و غيرها بل الأمرُ أشدُّ و أخطر، قال الإمام أبو المعالي الجُوَيْنِي _ رحمه الله _: مَن حفظَ نصوصَ الشافعي و أقوال لناس بأسرها غيرَ أنه لا يعرف حقائقها و معانيها لا يجوزُ له أن يَجْتهدَ و يقيس، و لا يكون من أهل الفتوى، و لو أفتى به لا يجوز. ا, هـ. [البحر المحيط، 6/ 307].
هذا هو المَحلُّ الأوَّلُ من محلَّيْ فقدِ (الأمانة العلمية) تَشَعَّبَ بنا الحديث فيه لِعِظَمِ انتشاره في أوساط القوم، و لخطورة اغترار البعضِ بما أوتيه من معرفةِ إمرار اللفظ على الفصيحِ في الإعراب، مع لحوقِ فهمه مجانبةَ الصواب.
المَحلُّ الثاني: عدمُ الأخذ بمُعتمداتِ أهل الفنون في فنونهم، و قد مرَّ تَكراره، و لمناسبته أعدته، و مراعاةُ هذا الشيء مهمٌ جداً، إذ ربما يَطرحُ المتصدِّرُ كلاماً على أنه مُعتمدُ أهل الفنِّ و ليس بذاك، فإن الفنون قد حُرِّرَتْ و عُنِيَ بها من قِبَلِ أهلها، و تواضعوا على ألفاظٍ هُنَّ اصطلاحات لهم يفهمون من خلالها مسائلَ الفن.
و من هذا أن يعتني الطارحُ للعلم، و المتصدرُ لنشره _ إن كان أهلاً _ بمتونهم المعتبرة، قال العلامة المرعشي الشهير بساجقلي زاده: (المنقول من سيرهم، و المتبادر من كلماتهم في مؤلفاتهم أنهم تناولوا متون الفنون المعتبرة و هي مسائلها المشهورة) أهـ. [انظر: ترتيب العلوم ص 80].
و إهمالها ضَرْبٌ من الخيانة لـ (الأمانة العلمية).
و بتمامِ الحديثِ عن هذا المحل يكون الانتهاءُ من تقريرِ صُورِ ضياع (الأمانة العلمية)، و بيان شيءٍ من مفاسدِ ذلك التضييع لها.
و لعل في تمامها يكون وَعْظُ قائمِ القلبِ بمراجعةِ النفس، و محاسبة الذات، و السعي في حفظ (الأمانة العلمية) من أن تضيعَ أكثرَ و أكثرَ.
حمى الله العلم و أهله، و صانهم من عبثِ العابثين، و تلاعب الباطلين.
¥