وفي النص السابق , يشير ابن حزم رحمه الله إلى أن مأخذ ابن عباس t في مذهبه بإعطاء الأم الثلث كاملا من أصل التركة , هو عموم الآية الكريمة , وبيان ذلك: أن ظاهر الآية أعم من أن أهم من أن يكون مع الأم زوج أو زوجة أو لا (38)؛ لأن الله تعالى فرض لها الثلث عند عدم الولد والأخوة , وليس ههنا – في مسألة البحث (العمريتين) – ولد ولا إخوة (39) , فيكون نص الآية شامل لها , فلو أعطيت الأم هنا لكانت تعطاه مع عدم الولد مطلقا , وهذا خلاف ما دل عليه القرآن , وقد روي عن ابن عباس t أن قال لزيد بن ثابت t : ( أفي كتاب الله ثلث ما بقي) (40) , أي: ليس في كتاب الله إلا سدس وثلث (41) , وفهم ابن عباس t ذلك من أن الله تعالى جعل للأم أولا سدس التركة مع الولد بقوله سبحانه:] ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد [(42) , ثم ذكر أن لها مع عدمه الثلث بقوله عز وجل:] فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث [(43) , فيفهم منه: أن المراد ثلث أصل التركة أيضا (44).
ومذهب زيد بن ثابت t أسعد بموافقة القرآن؛ فإن الله سبحانه إنا أعطاها الثلث كاملا إذا انفرد الأبوان بالميراث؛ فإن قوله سبحانه:] فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث [, شرط في أن استحقاق الثلث عدم الولد وتفردهما بميراثه , ولو لم يكن تفردهما شرطا لم يكن في قوله:] وورثه أبواه … [فائدة , ولكان زيادة في اللفظ , ونقصا في المعنى , وتطويلا يغني عنه قوله:] فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث [, فإنه حينئذ سواء ورثه أبواه أو لم يرثه أبواه , لأمه الثلث , فلما قال:] وورثه أبواه … [, علم أن استحقاق الأم الثلث موقوف على المرين , وهو سبحانه ذكر أحوال الأم كلها نصا وإيماء , فذكر أن لها السدس مع الأخوة , وأن لها الثلث كاملا مع عدم الولد وتفرد الأبوين بالميراث , وبقي لها حالة ثالثة , وهي عدم الولد وعدم تفرد الأبوين بالميراث , وذلك لا يكون إلا مع الزوج والزوجة , فإما أن تعطى في هذه الحال الثلث كاملا وهو خلاف مفهوم القرآن , إما أن تعطى السدس فإن الله سبحانه لم يجعله فرضها إلا في موضعين مع الولد ومع الأخوة , وإذا امتنع هذا وهذا كان الباقي بعد فرض الزوجين هو المال الذي يستحقه الأبوان , ولا يشاركهما فيه مشارك , فهو بمنزلة المال كله إذا لم يكن زوج ولا زوجة , فإذا تقاسماه أثلاثا كان الواجب أن يتقاسما الباقي بعد فرض الزوجين كذلك (45) (46).
فتحصل بهذا التقرير أمور:
الأول: أن مفهوم القرآن ينفي أن تأخذ الأم الثلث مطلقا , بل في كتاب الله ما يمنع إعطاءها الثلث مع الأب وأحد الزوجين , فمن أعطاها الثلث مطلقا حتى مع الزوجين فقد خالف مفهوم القرآن.
الثاني: أن القرآن لما خص وراثة الأم للثلث ببعض الحال – وهي عدم الولد والأخوة وتفرد الأبوين بالميراث – علم أنها لا تستحقه مطلقا (47) , وبذلك ينتقض العموم المدعى في الآية الكريمة.
الثالث: بيان بطلان دعوى لبن حزم رحمه الله في عدم وجود متعلق لزيد بن ثابت t في الآية الكريمة (48).
وقد ذكر ابن رجب رحمه الله تعالى أن في الآية متعلق آخر – غير ما تقدم – يدل على صحة مذهب زيد بن ثابت t , فقال:
" إ ن قوله:] … وورثه أبواه فلأمه الثلث [, أي: مما ورثه الأبوان , ولم يقل: فلأمه الثلث مما ترك كما قال في السدس , فالمعنى: أنه إذا لم يكن له ولد , وكان لأبويه من ماله ميراث , فللأم ثلث ذلك الميراث الذي يختص به الأبوان , ويبقى الباقي للأب.
ولهذا السر – والله أعلم – حيث ذكر الله الفروض المقدرة لأهلها , قال فيها:] مما ترك [(49) , أو ما يدل على ذلك كقوله:] من بعد وصية يوصى بها أو دين [(50) , يبين: أن ذا الفرض حقه ذلك الجزء المفروض المقدر له من جميع المال بعد الوصايا والديون , وحيث ذكر ميراث العصبات , أو ما يقتسمه الذكور والإناث على وجه التعصيب , كالأولاد والأخوة لم يقيده بشيء من ذلك , ليبين أن المال المقتسم بالتعصيب ليس هو المال كله , بل تارة يكون جميع المال , وتارة يكون هو الفاضل عن الفروض المقدرة.
¥