وهنا لما ذكر ميراث الأبوين من ولدهما الذي لا ولد له , ولم يكن اقتسامهما للميراث بالفرض المحض , كما في ميراثهما مع الولد , ولا كان بالتعصيب المحض الذي يعصب فيه الذكر الأنثى , ويأخذ ما تأخذه الأنثى , بل كانت الأم تأخذ ما تأخذه بالفرض , والأب يأخذ ما يأخذه بالتعصيب , قال:] … وورثه أبواه فلأمه الثلث [, يعني: أن القدر الذي يستحقه الأبوان من ميراثه تأخذ الأم ثلثه فرضا , والباقي يأخذه الأب بالتعصيب " (51).
وبهذا يظهر فساد دعوى ابن حزم رحمه الله في التشنيع على جمهور العلماء؛ حيث قال: " ثم يقولون ههنا في قوله تعالى:] … فلأمه الثلث [, أن المراد به: ما يرث الأبوان , وهذا تحكم في القرآن , وإقدام على تقويل الله تعالى ما لم يقل " (52).
واحتج بعض العلماء (53) لمذهب ابن عباس t بالحديث المذكور آنفا: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر) (54) , وذكروا في وجه الدلالة منه: " أن الأب ههنا عصبة , فيكون له ما فضل عن ذوي الفروض كما لو كان مكانه الجد " (55).
ويمكن الجواب عن ذلك: بأنه لا يوجد تعارض بينه وبين مذهب زيد بن ثابت t وغيره من الصحابة الموافقين له؛ فإن الأب – حسب رأيهم – يأخذ ما بقي بعد أن تأخذ الأم فرضها وهو ثلث الباقي بعد فرض الزوجين.
ومما يتلطف في الاستدلال لتأييد مذهب زيد بن ثابت t ومن وافقه من السنة النبوية الشريفة: ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص t أن رسول الله r قال: (العلم ثلاثة , وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة) (56).
قال الإمام الخطابي رحمه الله تعالى:
" وقوله: (أو فريضة عادلة) , يحتمل وجهين من التأويل , أحدهما: أن يكون من العدل في القسمة؛ فتكون مستنبطة من الكتاب والسنة ومن معناهما؛ فتكون هذه الفريضة تعدل ما أخذ من الكتاب والسنة إذ كانت في معنى ما أخذ عنهما نصا , … روى عكرمة , قال: أرسل ابن عباس إلى زيد بن ثابت يسأله عن امرأة تركت زوجها وأبويها , قال: للزوج النصف , وللأم ثلث ما بقي , فقال: تجده في كتاب الله أو تقوله برأي؟ , قال: أقوله برأي , لا أفضل أما على أب , … فهذا من باب تعديا الفريضة إذا لم يكن فيها نص؛ وذلك أنه اعتبرها بالمنصوص غليه , وهو قوله تعالى:] … وورثه أبواه فلأمه الثلث [, فلما وجد نصيب الأم الثلث , وكان الباقي المال هو الثلثان للأب , قاس النصف الفاضل من المال بعد نصيب الزوج على كل المال إذا لم يكن مع الوالدين ابن أو ذو سهم؛ فقسمه بينهما على ثلاثة , للأم سهم وللأب سهمان وهو الباقي , وكان هذا أعذل في القسمة من أن يعطى الأم من النصف الباقي ثلث جميع المال , وللأب ما بقي وهو السدس , ففضلها عليه فيكون لها وهي مفضولة في أصل الموروث أكثر مما للأب وهو المقدم والمفضل في الأصل , وذلك اعدل مما ذهب إليه ابن عباس من توفير الثلث على الأم , وبخس الأب حقه برده إلى السدس , فترك قوله وصار عامة الفقهاء إلى زيد " (57).
وقد حاول ابن حزم رحمه الله توهين قول المخالفين له إما بتضعيف نسبته إلى من روى عنه من الصحابة , أو بتأويله بما يوافق مذهب ابن سيرين رحمه الله الذي يوافق قول الجمهور في مسألة الزوج , مذهب ابن عباس t وموافقوه في مسألة الزوجة لعدم تحقق تفضيل الأم على الأب فيها عند أخذها لثلث المال كاملا , فقال: " وما وجدنا قول المخالفين يصح عن أحد إلا عن زيد وحده , وروي عن علي , وابن مسعود ولم يصح عنهما , وقد يمكن أن يخرج قول عمر وعثمان وابن مسعود على قول ابن سيرين " (58).
ويظهر من النص السابق أن ابن حزم رحمه الله معترف بنسبة هذا القول إلى زيد بن ثابت وحده , أما غيره فإنه يعارض في نسبته إليهم , وذلك على النحو الآتي:
1 - عدم صحة نسبته إلى علي بن أبي طالب t .
روي عن علي بن أبي طالب t في ذلك روايتين:
أحدهما: موافقة لمذهب ابن عباس t , رواها البيهقي بإسناده في السنن الكبرى (6/ 228) , والدارمي في سننه (2/ 346).
والثانية: موافقة لمذهب زيد بن ثابت t , وقد أخرجها البيهقي في السنن الكبرى (6/ 228) , وقال ابن كثير رحمه الله عنها في تفسيره (2/ 227): " أصح الروايتين عن علي ".
2 - عدم صحة نسبته إلى عبدالله بن مسعود t .
¥