تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

خانقة، وقبل ان يموت اشار الى مكان مبلغ من المال ليصرف منه على تجهيزه. وكان في هذه كالوالدة رحمها الله، فكل منهما ترك ما ينفق على تكفينه وتجهيزه وجنازته. ولم يكن الشيخ ليزور او يزار الا في المناسبات. ولم يكن يقرأ الجرائد، او يستمع الى الراديو. وغني عن القول انه لم يذهب في حياته الى سينما او مسرح، كما لم يخرج طوال الثلاثين عاما الاخيرة من حياته لنزهة او لرؤية متحف او حديقة ... الخ. ولعله رأى الاهرام اول قدومه القاهرة، وقد امضى حياته القاهرية كلها في مثلث السيدة ـ الخليفة ـ الدرب الاحمر.

وكان الشيخ يتناول عددا من فناجين القهوة، وكان في متناول يده وابور سبرتو وعدة القهوة، وقد قيض الله له من كان يعينه في هذا، اذ كان في الحوش، رجل يعمل في صناعة الاحذية هو «الاوسطى» احمد الذي تطوع بخدمة الشيخ فكان يحضر «الخبز» ويغسل فناجين القهوة الخ .. رحمه الله فقد توفي بعد وفاة الشيخ. وكان هذا اقل ما يمكن ان يفعله الشيخ لدفع الملل الذي كان ولا بد يستبد به، عندما تتوالى الساعات، ساعة بعد اخرى، وهو مكب على عمله، ويتكرر هذا يوما بعد يوم، في مكتب لا تدخله الشمس، ولا يظفر بتهوية، ولم يكن، رحمه الله، مجردا من الحاسة الفنية ايامه الاولى، وكان مكتبه في المحمودية على شاطئ النيل، يطل على منظر من اجمل المناظر تحفه الخضرة ويغسله الهواء وتجففه الشمس، ولعله في احدى بدوات الشباب امل ان يكون له «كارتة» يجرها حصان مطهم، ويقطع بها طرقات المحمودية. وكانت تلك هي اعظم وسيلة للاستمتاع وقتئذ، ولكنه اطرح كل هذا وآثر ان يتبتل للعلم في هذا المكتب المقبض الذي لم يكن ليطيق البقاء فيه ساعات وليس اياما احد غيره.

وقد عثرنا بين اوراقه على خطاب من احد شيوخ مكة يطلب منه الاجازة وترجمة حياته الحافلة فأرسل الشيخ خطابا جاء فيه:

الاخ الصالح سليمان بن عبد الرحمن الصنيع حفظه الله ونفع به آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد، فقد تسلمت خطابكم من فضيلة الاستاذ الشيخ محمد عبد الرازق حمزة، وامتثالا لامركم وحسن ظنكم بي كتبت الاجازة بخطي وسلمتها لحضرته وتصلكم ان شاء الله تعالى وانتم متمتعون بالصحة والعافية. عمم الله النفع بكم وبارك فيكم. اما ترجمتي «الحافلة» فلا تكون في حياتي ولا من صنع يدي «5 شعبان».

وهذا الخطاب يصور ادب الشيخ وتواضعه الحقيقي، وفي الوقت نفسه فإنه يكشف عن انه كان يعلم حق العلم قدر نفسه وقدر العمل العظيم الذي يقوم به ولكنه كان يتقرب الى الله بهذا فلا يجد فيه مبررا لزهو، او فخر او استعلاء وقد قرأنا على غلاف لاحد الاصول بخطه هذا التنبيه «لأوسطى المطبعة» الرجاء عدم تكسير الورق كثيرا والمحافظة على نظافته بقدر الامكان، ولا يصح ان يكتب عليه بالانجليزي كأنه لعبة، لان هذه الاصول ستجلد ويحتفظ بها جيدا لانها خط المؤلف.

ـ[محمد الأمين فضيل]ــــــــ[18 - 03 - 03, 10:59 ص]ـ

السنوات الأخيرة للشيخ الوالد (4)

جمال البنا

رغم العقوق والنكران من «المؤسسة المشيخية» في الأزهر، والأوقاف .. إلخ، فإن الشيخ لم يعدم من يقدّره قدره، ومن يكتب على مظروف مجلة «المسلم»، التي ترسلها إليه العشيرة المحمدية «مولانا الجليل المبارك العارف باللّه سيدي الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا».

وكان الشيخ يستخدم في كتابته «الريشة» والمحبرة وأنواعاً مختلفة من «السن»، لكنه عند ظهور أقلام الحبر استخدم أنواعاً منها. وكانت أصابعه الطويلة الرشيقة تمضي هوناً على الورق، فتكتب بخط دقيق، لكنه واضح، وكان يكتب المتن بخط كبير نسبياً، وكان يرقمه ويشكله بالحبر الأحمر. أما الشرح، فكان يكتبه بخط دقيق للغاية، بحيث ان نصف الصفحة كان يستوعب أربعين سطراً لا يتخللها شطب واحد، ويمكن قراءته على دقته، كما كان في كثير من الحالات يملأ هوامش الصفحة أيضاً.

وكان الشيخ البنا أقرب إلى الطول منه إلى القصر، وإلى النحافة منه إلى البدانة، وإلى البياض منه إلى السمرة .. وكانت يداه طويلتين وأصابعه رشيقة، ناتئ الوجنتين، مقرون الحاجبين، واسع الشدقين، أشم الأنف، وكان يلبس الجبة والقفطان ويضع العمامة على عادة شيوخ مصر. وكانت صحة الشيخ بصفة عامة حسنة، ولا أذكر أنه زار طبيباً أو أن طبيباً زاره قبل مرضه الأخير.

وكان من عجيب أمر الشيخ أنه لم يزر طبيب عيون، وأنه كان يختار نظارته حسبما اتفق، ثم لا يتخلص منها إلا إذا أصابها عطب ليختار أخرى بالطريقة نفسها.

وإذا قدرنا الحياة الروتينية والحبسة في المكتب المقبض ليل نهار، والوحدة الكئيبة التي كان يعيش فيها، وعدم عنايته عناية خاصة بالغذاء، وما تعرض له من شدائد ومحن في الثلاثينات، ثم النكبة المدلهمة باغتيال ابنه المأمول، وما سحبته من آلام وهموم على بقية حياته، وإن هذا الحدث قد أصاب أسرته كلها بضربة قاضية أخرت تقدمها، نقول إذا قدرنا هذا كله لأدركنا أن الشيخ رحمه الله كان يدافع كل هذه القوى الهدامة الميئسة لكي يحقق أمله العظيم في إتمام «الفتح»، كان الفتح هو الذي يمسكه على قيد الحياة ويعطيه القوة التي استطاع أن يغالب بها عوامل كان يمكن أن تجعل غيره يتهاوى قبل الوقت الذي أسلم فيه الشيخ الروح.

وحتى الأيام الأخيرة من عمر الشيخ لم ييأس أو يتوقف عن العمل، وكان قد وصل إلى منتصف الجزء 22 وهو عن التاريخ، ولما أحس بهجوم المرض، حاول أن يعرفني بأسرار عمله، وقال إن الجزء 22 عن التاريخ. وإن شرحه لن يحتاج إلى فنية واستاذية كبيرة، ونصحني بالرجوع إلى البداية والنهاية لابن كثير لأن تاريخه يعتمد على الحديث، كما يتضمن التخريج، وهو محك الخبرة والاستاذية.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير