الثانية: ذكرها الجاحظ، فقال: (كان لنا بالبَصرة قاضٍ يقال له: عبدُ?الله بنُ سوَّار، لم يَرَ النَّاسُ حاكماً قطُّ، ولا زِمِّيتاً [19]، ولا رَكيناً [20]، ولا وقوراً حليماً؛ ضَبطَ من نفسه، وملَك من حركته مثلَ الذي ضبَط وملَك، كان يصلِّي الغداةَ، فيأْتي مجلسَه، فيحتبي ولا يتَّكئ، فلا يزالُ منتصباً، ولا يتحرَّك له عضوٌ، ولا يلتفت، ولا يحلُّ حَبْوَته، ولا يحوِّل رِجلاً عن رِجل، ولا يَعتمد على أحد شِقَّيه، حَتَّى كأنّه بناءٌ مبنيٌّ، أو صخرةٌ منصوبة؛ فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة الظهر، ثم يعودُ إلى مجلسهِ؛ فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى العصر، ثمَّ يرجع لمجلسه؛ فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة المغرب، ثمَّ رُبما عاد إلى محَلِّه، بل كثيراً ما كان يكون ذلك، إذا بقي عليه من قراءة العهود والشُّروط والوثائق، ثمَّ يُصلِّي العشاء الأخيرة وينصَرف، فالحق يقال: لَمْ يَقمْ في طول تلك المدَّةِ والوِلايةِ مَرَّةً واحدةً إلى الوضوء، ولا احتاجَ إليه ولا شرِبَ ماءً ولا غيرَه من الشراب، كذلك كان شأْنُه في طِوال الأيام، وفي قِصارها، وفي صيفها، وفي شتائها، وكان مع ذلك لا يحرِّك يدَه، ولا يُشيرُ برأسِه، وليس إلاَّ أن يتكلم، ثمَّ يوجز، ويَبلُغ بالكلامِ اليسيرِ المعانيَ الكثيرة، فبينا هو كذلك ذاتَ يوم، وأصحابه حواليه، وفي السِّماطين بينَ يديه، إذْ سقَطَ على أنفِه ذُبَابٌ، فأطال المكث، ثمَّ تحوَّل إلى مُوقِ عينه، فرام الصَّبر في سقوطه عَلَى الموق، وعلى عضِّه، ونفاذِ خرطومه، كما رَام من الصبر على سقوطه على أنفه من غير أن يحرِّك أرنبَته، أو يغض وجهَهُ، أو يذبَّ بإصبعه، فلمَّا طال ذلك عليهِ من الذبَاب، وشغَله وأوجعَه وأحرَقهُ وقصدَ إلى مكان لا يحتمل التغافُلَ، أطبَق جفنَهُ الأعْلى عَلَى جفنِه الأسفلِ، فلم ينهض فدعاه ذلك إلى أن وَالى بينَ الإطباقِ والفتْح، فتنحَّى ريثما سكنَ جفنُهُ، ثمَّ عاد إلى موقِه بأشدَّ من مرَّته الأولى، فَغَمَسَ خرطومهُ في مكان كان قد أوهاهُ قبلَ ذلك؛ فكان احتماله له أضعف، وعجزُه عن الصَّبر في الثانية أقوى، فحرَّك أجفانَهُ، وزاد في شدَّة الحركة، وفي فتح العين، وفي تتابُع الفتْح والإطباق؛ فتنحَّى عنهُ بقدْرِ ما سكَنَتْ حركَتهُ، ثمَّ عاد إلى موضِعِه، فما زالَ يلحُّ عليه حتى استفرغَ صبْرَه، وبَلغَ مجهُوده؛ فلم يجدْ بُدّاً من أن يذبَّ عن عينيهِ بيده، ففعل وعيون القوم إليه ترمُقه، وكأنَّهم لا يَرَوْنَه، فتنَحَّى عنه بقدْر ما رَدَّ يدَه، وسكَنتْ حركته، ثمَّ عاد إلى موضعه، ثمَّ ألجأه إلى أن ذبَّ عن وجْهه بطَرَف كمه، ثم ألجَأه إلى أنْ تابَعَ بين ذلك، وعلم أنَّ فِعلَه كلَّه بعين مَنْ حَضَره من أُمنائه وجلسائه، فلمَّا نظروا إليه قال: أشهد أنَّ الذّباب ألجُّ من الخنفساء، وأزهى من الغراب، وأستَغفر الله! فما أكثر مَن أعجبَتْه نفسُه، فأراد الله - عز وجل - أن يعرِّفه من ضعْفِه ما كان عنهُ مستوراً! وقد علمت أنِّي عند الناس مِنْ أزْمَتِ الناس، فقد غلَبَني وفَضَحَني أضعفُ خلْقِه ثمَّ تلا قولَهُ - تعالى -: { ... وَإن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 37] [21].
الثالثة: قال عبيد بن شريك: (كان أبو معمر القطيعي من شدة إدلاله بالسُّنة يقول: لو تكلمت بغلتي لقالت: إنها سُنِّية. قال: فأُخذ في المحنة؛ فأجاب، فلما خرج، قال: كفرنا وخرجنا!) [22].
أسأل الله في ختام هذا المقال أن يُصلح لنا شأننا كلَّه، ولا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، كما أسأله أن يجنبنا منكرات الأخلاق والأهواء والأسواء والأدواء، وأن يقينا شر أنفسنا والشيطان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] أخرجه النسائي في الكبرى: (10405).
[2] أخرجه أحمد: (3916).
[3] أخرجه أحمد: (21666).
[4] سير أعلام النبلاء: 5/ 161، و8/ 66.
[5] تفسير الرازي: 18/ 145.
[6] أخرج الحاكم: 4/ 352 عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي دخل مكة و ذقنه على رحله متخشعاً. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، و لم يخرجاه.
[7] بتصرف من مدارج السالكين: 2/ 394،395.
[8] أخرجه البخاري: (834) ومسلم: (2075).
[9] مدارج السالكين: 1/ 524، والقصيدة أطول من هذا؛ وقد تركتها اختصاراً.
[10] سيَر أعلام النبلاء: 11/ 214.
[11] الورع للمروذي: ص494.
[12] الورع: ص 6.
[13] الورع: ص152.
[14] السيَر: 11/ 211.
[15] المناقب: ص367.
[16] الوافي بالوفيات: 2/ 272، والقصيدة أطول من هذا؛ وقد تركتها اختصاراً.
[17] أخرجه أبو داود: (4291).
[18] أدب الدنيا والدين: ص 81.
[19] قال في لسان العرب (2/ 35): (الزَّمِيتُ والزِّمِّيتُ الحليم الساكن القليل الكلام كالصِّمِّيتِ).
[20] قال في لسان العرب (13/ 185): (ورجل رَكِين وَقُورٌ رَزِينٌ بَيّنُ الرَّكانة، ويقال للرجل إذا كان ساكناً وقوراً: إنه لرَكِينٌ).
[21] الحيوان: 3/ 343.
[22] تهذيب الكمال: 3/ 20.
http://www.albayan-magazine.com/bayan-268/bayan-06.htm
قال الإمام علي بن أحمد بن حزم في رسالته "مداواة النفوس" ص387 كلاماً بليغاً في القضاء على الإعجاب:
" فإن أُعجبت بعقلك ففكر في كل فكرة سوء تمرّ بخاطرك وفي أضاليل الأماني الطائفة بك، فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ "
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=13474
¥