وأعظم الكفر جحود الوحدانية، أو الشريعة، أو النبوة. واستعمال الكفران في جحود النعمة أكثر من استعمال الكفر، واستعمال الكفر في الدين أكثر من استعمال الكفران، والكفور يستعمل فيهما جميعًا. قال تعالى:?فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً? (الإسراء: 99).
وجاء الأمر- هنا- بندائهم بوصف {الكافرين}:?قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ?،وجاء في سورة الزمر بندائهم بوصف {الجاهلين}:?قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ? (الزمر: 64).
وبيانه: أن هذه السورة نزلت فيهم بتمامها، وليس كذلك سورة الزمَر؛ ولهذا كان لا بدَّ من أن تكون المبالغة بالوصف فيها أبلغَ وأشدَّ. ولا يوجد لفظ أبلغ في الكشف عن حقيقتهم، وأشدُّ وقعًا عليهم من لفظ {الكافرين}. ثم إنه لا يوجد لفظ أبشع، ولا أشنع من هذا اللفظ؛ لأنه صفة ذمٍّ عند جميع الخلق. قال القرطبي:” قال أبو بكر بن الأنباري: إن المعنى: قل للذين كفروا:?يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ?! أن يعتمدهم في ناديهم، فيقول لهم:?يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ?! وهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر “.
ولكون هذا اللفظ صفة ذمٍّ عند جميع الخلق، ويتضمَّن مع الذمِّ الإهانة، لم يقع الخطاب به في القرآن في غير موضعين، هذا أحدهما، والثاني قوله تعالى:?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ? (التحريم: 7).
والفرق بين الوصفين أن?الَّذِينَ كَفَرُوا ? يحتمل أن يكونوا قد آمنوا، ثم كفروا. أما ?الْكَافِرُونَ? فيدل على أن الكفر صفة ملازمة لهم، ثابتة فيهم، وأنهم ليسوا أصحاب عقيدة، يؤمنون بأنها الحق؛ لأنهم ليسوا على دين، خلافًا لما كانوا يدَّعون من أنهم على دين إبراهيم عليه السلام؛ وإنما همأصحاب ظواهر، يهمهم أن يستروها؛ لأنهم كافرون، ولا التقاء بين الكفر، والإيمان في طريق.
وهكذا يوحي مطلع السورة وافتتاحها بهذا الخطاب، بحقيقة الانفصال، الذي لا يرجَى معه اتصال بين الكفر والإيمان، والحق والباطل!
ولسائل أن يسأل: لمَ جاء خطابهم في قوله تعالى:?قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ?، بوساطة الأمر ?قُلْ?، وجاء بدونه في قوله تعالى:
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ? (التحريم: 7)؟
ويجاب عن ذلك بأن الخطاب في سورة (التحريم)؛ إنما هو خطاب لهم يوم القيامة، وهو يوم لا يكون فيه الرسول رسولاً إليهم؛ ولهذا جاء خطابهم بدون وساطة الأمر ?قُلْ?. ثم إنهم في ذلك اليوم يكونون مطيعين، لا كافرين؛ فلذلك ذكرهم الله تعالى بقوله:?الَّذِينَ كَفَرُوا ?.
أما الخطاب في سورة (الكافرون) فهو خطاب لهم في الدنيا، وأنهم كانوا موصوفين بالكفر، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم رسولاً إليهم؛ فلهذا جاء خطابهم بوساطة الأمر ?قُلْ?. وفي ذلك إشارة إلى أن من كان الكفر وصفًا ثابتًا له، لازمًا لا يفارقه، فهو حقيق أن يتبرَّأ الله تعالى منه، ويكون هو أيضًا بريئًامن الله تعالى ورسوله.
ثالثًا-
وقوله:? لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ? جواب للنداء، وهو نفي للحال، ويقابله قوله:? وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ?. أي: لا أعبد الآن ما تعبدون، ولا أنتم تعبدون الآن ما أعبد أنا.
أما قوله:?وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ? فهو نفي للمستقبل، ويقابله قوله:? وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ?. أي: ولا أعبد أنا في المستقبل، ما عبدتم أنتم في الماضي. ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد الآن، وفي المستقبل.
وعلى هذا فلا تكرار أصلاً في السورة، خلافًا لمن زعم أن هذا تكرار، الغرض منه التوكيد. وبهذا الذي ذكرت تكون الآيات الكريمة قد استوفت أقسام النفي عن عبادته صلى الله عليه وسلم، وعبادة الكافرين، في الماضي، والحاضر، والمستقبل، بأوجز لفظ، وأخصره، وأبينه.
¥