أما خلافهم فيما خالف القياس الجلي فهو غير معتد به؛ لكونه مبنيا على ما يقطع ببطلانه، والاجتهاد الواقع على خلاف الدليل القاطع كاجتهاد من ليس من أهل الاجتهاد في إنزالهما بمنزلة ما لا يعتد به، وينقض الحكم به (فتاوى ابن الصلاح ص 69).
ولأنه يجوز تبعيض الاجتهاد؛ بمعنى أن يكون العالم مجتهدا في نوع دون غيره، فكذلك الظاهرية يعتبر قولهم فيما عدا ما خالفوا القياس الجلي (فتاوى ابن الصلاح ص 69).
ولأن المسائل التي خالفوا فيها القياس الجلي، وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه، أو بنوه على أصولهم التي قام الدليل القاطع على بطلانها باتفاق من سواهم على خلافه، إجماع منعقد. وقولهم حينئذ خارج من الإجماع؛ كقولهم في التغوط في الماء الراكدة؛ وقولهم: لا ربا إلا في الستة المنصوص عليها.
فخلافهم في هذا، وشبهه غير معتد به؛ لأنه مبني على ما يقطع ببطلانه، والاجتهاد على خلاف الدليل القاطع مردود، وينتقض حكم الحاكم به (تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1\ 184).
ويعرض على تفريقهم بين القياس الجلي، والقياس الخفي في الاعتداد بخلاف الظاهرية في الثاني دون الأول. أن يقال لهم:
أ - إن تقسيم القياس إلى جلي وخفي - بحسب تقسيم الشافعية - إنما هو تقسيم لما يطلق عليه القياس، لا القياس الشرعي المعرف بين الأصوليين، والذي فيه نزاع الظاهرية.
فإن الجمع بنفي الفارق - وهو القياس الخفي - ليس من حقيقة القياس (تيسير التحرير لأمير بادشاه 4\ 77).
فعاد هذا القول للقول الأول، وهو نفي الاعتداد بخلاف الظاهرية مطلقا، فيكون القول فيهما واحدا.
ب - كذلك فإنه يقال: إما أن يعمم عدم الاعتداد بخلاف من خالف قول الأكثر في القياس الجلي سواء كان من أهل القياس، أم لا. أو أن يخص بأهل الظاهر فقط.
فإن قيل بالأول وهو أن كل من خالف في القياس الجلي لم يقبل قوله، ولا يعتد بخلافه، فهذا يؤدي إلى القول بقطعية هذا القياس، وفيه نظر؛ بدليل خلاف بعض القياسيين فيه.
وإن قيل بتخصيص منكري القياس فقط. ففيه تحكم؛ لأنه ربما خالف في هذه المسألة التي يدعي أن القياس فيها جلي غير الظاهرية ممن يعمل القياس؛ فيكون القائل هذا القول قد أهمل خلاف الظاهري، وأعمل خلاف غيره في مسألة واحدة، وهو تحكم.
مثال ذلك: ما ذكره أصحاب هذا القول من التمثيل للمسائل التي خالف فيها الظاهرية القياس الجلي؛ بأن الظاهرية يقولون: " بأن الربا لا يجري إلا في الأصناف الستة المنصوص عليها في الحديث فقط، ولا يتعداها لغيره ".
وهذه المسألة لم ينفرد بها الظاهرية بل وافقهم عليها بعض أهل القياس، فقال أبو الوفا ابن عقيل (ت 513 هـ) من الحنابلة، وغيره.
فإن قبلنا خلافه، ورددنا خلاف الظاهرية فهو تحكم. وإن قلنا برد خلاف الجميع فلا فائدة من تخصيص الظاهرية بعدم الاعتداد بقولهم، بل نرد خلاف جميع من خالف في هذا القياس.
والراجح في هذه المسألة - والله تعالى أعلم - هو الاحتجاج بخلاف الظاهرية مطلقا، وعدم انعقاد الإجماع بدونهم. وأن خلافهم مانع من انعقاده. ولا يصح رد قولهم بإجماع معاصريهم.
وأما ما شذوا فيه فيرده كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهما اللذان يحكمان ببطلانه حال عرضه عليهما.
- - -
المبحث الرابع: أمثلة تطبيقية على خلاف الظاهرية
سبق في بيان محل البحث والنزاع أن الحديث هنا فيما إذا انفرد الظاهرية بقول ولم يسبقوا إليه بقول أحد من الصحابة أو التابعين، أو لم يوافقهم عليه أحد من علماء المذاهب الأربعة المعروفة.
وبالنظر إلى كثير من المفردات التي ذكرها من حرص على جمع مفردات الظاهرية، أو ابن حزم بالخصوص، نجد أنهم يذكرون ما خالف فيه مشهور أقوال الأئمة الأربعة فقط، وهذا في الحقيقة خلاف المقصود بالبحث.
وسأذكر بضع مسائل، لا بقصد الاستيعاب، بل لقصد التمثيل فحسب.
مسألة: وجوب تقديم العضو الأيمن على الأيسر في الوضوء.
قال ابن حزم بوجوبه (المحلى 3 - 66)
وقد حكى الإجماع على الاستحباب دون الوجوب جمع من العلماء؛ منهم ابن المنذر (الأوسط 1 - 387، والنووي (المجموع 1 - 383).
مسألة: وجوب الاضطجاع على الشق الأيمن على من صلى ركعتي الفجر.
ذكر ابن حزم (المحلى 3 - 196) أنه يجب على من صلى ركعتي الفجر أن يضطجع على شقه الأيمن قبل صلاة الفجر سواء صلاها في وقتها أو قاضيا لها من نسيان أو عمد نوم، فإن عجز عن الضجعة أشار إلى ذلك حسب طاقته. ولم يجز له أن يصلي الصبح إلا بأن يضطجع على شقه الأيمن.
مسألة: جواز قص المحرم لأظفاره.
ذكر ابن حزم (المحلى 7 - 246) أنه يجوز للمحرم قص أظفاره وأنه لا شيء عليه فيه.
وقد حكى الإجماع على حرمتها جمع من أهل العلم؛ كابن المنذر (الاجماع ص 17)، وابن قدامة (المغني 5 - 146)، وغيرهم.
مسألة: عدم توريث الجدة أم الأب.
أنكر ابن حزم الإجماع على توريث أم الأب، وقال (المحلى 10 - 350): " إن أبا بكر رضي الله عنه لم يورث إلا جدة واحدة فقط؛ وهي أم الأب، فلا ميراث لغيرها من الجدات ".
وقد حكى الإجماع على توريث أم الأم جمع من العلماء؛ منهم ابن المنذر (الاجماع ص 34)، والماوردي (الحاوي 8 - 110)، والبغوي (شرح السنة 8 - 347)، والعمراني (البيان 3 - 704)، وغيرهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
البحث مع الحواشي تجده في المرفقات
¥