[لعلمه الذين يستنبطونه منهم]
ـ[عمر الريسوني]ــــــــ[19 - 03 - 09, 03:22 م]ـ
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
يقول الله عز وجل في محكم الكتاب (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) النساء 83.
الاجتهاد بذل الوسع في نيل حكم شرعي بطريق الاستنباط والشرط أن يكون المجتهد عالما بنصوص الكتاب والسنة، ولعل القياس واحد من أهم مصادر الفقه اذ هو أصل الرأي وينبوع الاستنباط وبه تعلم أحكام الوقائع مسايرة للتطورات الحاصلة وقد قال الامام مالك رحمه الله الاستحسان أي الاجتهاد تسعة أعشار العلم.
فالقياس اذن له أصوله وضوابطه ودليل العمل بالقياس: الكتاب والسنة والاجماع والعقل
ومثل الذي لم ينتفع بما عنده من العلم بينها كتاب الله عز وجل في قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا) سورة الجمعة الآية 59.
وقد يستدل البعض على عدم جواز التعبد بالقياس قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) سورة الأنعام الآية 38، وكتاب الله العزيز يعم في دلالاته كل شيء على العموم لا على جهة التفصيل ومن عمومات القرآن دلالته على جواز القياس والله أعلم.
والرأي المبني على الحجة والدليل والمقصود به احقاق الحق فهو محمود.
وومنها أيضا دلالة القياس ظنية وقوله تعالى: (وان الظن لا يغني من الحق شيئا) سورة النجم الآية 28، فالعمل بالكتاب والسنة والاجماع يبلغ المقصود.
فمن أركان القياس:الأصل والفرع والحكم والعلة فالأصل اختلفوا فيه وقيل هو دليل الحكم المقيس عليه وأن يكون ثبوته بنص من كتاب أو سنة أو متفقا عليه، وأن يكون شرعيا عمليا لأن هذا موضوع علم الفقه.
عن أبي شبرمة قال دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن الحنفية فسلمت عليه وكنت له صديقا، ثم أقبلت عليه وقلت له: أمتع الله بك، هذا رجل من أهل العراق وله عقل وفقه، فقال لي جعفر: لعله الذي يقيس الدين برأيه؟ ثم قال أهو النعمان؟ فقال نعم أصلحك الله، فقال جعفر: اتق الله ولا تقس الدين برأيك، فان أول من قاس ابليس، اذ أمره الله بالسجود لأدم فقال: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) سورة الأعراف الآية 12. ثم قال لأبي حنيفة: ويحك، أيهما أعظم عند الله قتل النفس التي حرم الله أو الزنا؟ فقلت: بل قتل النفس، فقال جعفر: ان الله قبل في قتل النفس شاهدين، ولم يقبل في الزنا الا أربعة شهود فكيف يقوم لك قياس؟ ثم قال: أيهما أعظم عند الله الصوم أو الصلاة؟ اتق الله ياعبد الله ولا تقس، فانا نقف بين يدي الله فنقول: قال الله عز وجل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول وأصحابك قسنا، أو رأينا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء.
ويتبين جليا أنه لا يقاس في العبادات كما لا يقاس فيما نص على حكمه بدليل قطعي الثبوت والدلالة وهناك استثناءات من قاعدة عامة كشهادة خزيمة فالرسول صلى الله عليه وسلم نص على أن شهادته وحده من غير أن يكون معه شاهد مقبولة بقوله صلى الله عليه وسلم: من شهد له خزيمة أو شهد عليه كفاه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم اشترى فرسا اسمه المرتجز من أعرابي فجحد الأعرابي البيع وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: هلم شهيدا يشهد لك، فشهد عليه خزيمة بن ثابت دون غيره، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لخزيمة: ما حملك على هذا ولم تكن حاضرا معنا؟ فقال له صدقت بما جئت به وعلمت أنك لا تقول الا حقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد له خزيمة فحسبه.
فالنصوص التي نستدل بها في حياتنا اليومية متناهية محدودة، والنوازل البشرية العارضة غير متناهية ولا محدودة فينتج عن هذا وجوب الركون الى الاجتهاد على أصول محكمة الكتاب والسنة والاجماع، من رأي مرسل وقياس محكم واستحسان واستصحاب واستصلاح وعندها لا مفر من الاختلاف، فالله تعالى خلق الخلق مختلفين في الادراكات والتصورات، (ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم) الآية 119 من سورة هود، وهذا الاختلاف لهو دليل عظيم على كمال قدرته وحسن تدبيره وانعامه وهكذا قدر سبحانه كل شيء بعلمه، (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) الآية 118 من سورة هود
والعلم ضروري برسوخ فمثلا قد يقرأ المرء آية من كتاب الله تعالى ويِؤولها بقدر علمه ويخفى عنه أن تلك الآية خصصتها آية أخرى فيشكل عليه الأمر لذا وجب استنباط الأمور بجلاء ومنها أيضا الناسخ والمنسوخ والمتشابه الى غير ذلك من علوم راسخة في كتاب الله والتي لا تعد ولا تحصى، ولا بد من تحصيل الاجماع بأي وجه، والاجماع يعد المصدر الثالث من مصادر التشريع والاجماع لا يكون الا بالعزم والاتفاق، لقوله تعالى: (فأجمعوا أمركم) الآية 71 من سورة يونس
فهناك في كتاب الله تعالى والأحاديث النبوية ما يكفي عن الاستدلالات العقلية
ومما لا جدال فيه أنه اذا أجمع اثنان على رأي واتفقا عليه فانه أحسن من الواحد والثلاثة أفضل من الاثنين، أما اذا اتفق الجميع فان مخالفهم يعتبر شاذا عن المنهج الصحيح
وفي عصرنا الحالي نرى تقلب الناس في البلاد وأحوالهم وأوضاعهم والعالم الحصيف المتفقه من استنباطه للأحكام الشرعية يرى ما يحصن الأمة من المساوئ التي تهدد كيانه كالانحلال الخلقي وبيوت الربا والفسق وجور الحكام وقسوة القلوب وعدم الالتزام بشرع الله، فيتدارك المحصنات الفقهية الضرورية واللازمة لاستنهاض الهمم وحفظ الأمة، ولقد دلت التجربة والخبرة منذ عهد الصحابة الى يومنا هذا لم يثبت أن الأمة الاسلامية أجمعت على شيء فظهر ما يدل على خطئها لذلك تبقى خير أمة، وسطا (أي عدولا).
وعلى العالم في فتواه ألا تكون مخالفة للاجماع بعلم موافق لمذهب من مذاهب العلماء لأن الغاية القصوى هي الوصول الى معرفة مقاصد الشريعة والبحث المستقصي في الكتاب والسنة والاجماع، والتعمق في فهم الدلالات وصيغ الأمر والنهي والتباين والترادف والاستثناء والتخصيص والاشتراك ومعرفة الحروف ومعانيها، حتى يكون التوجه قويما في الاستنباط والعلم بمقاصد الشريعة.