فالجواب: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
شبهتان والجواب عنهما:
قد يقول قائل: إن الخوارج بما فيهم الإباضية زادوا في معتقدهم بعد زمن علي بن أبي طالب، أيامَ مروان بن الحكم؛ حيث زاد نجدة بن عامر على معتقد الخوارج أنّ من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر - ولو اعتقد معتقدهم - وأبطل رجم المحصن، وقطع يد السارق من الإبط، وأوجب الصلاة على الحائض في كل حال حيضها، وكفر من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادرا، وإن لم يكن قادرا فقد ارتكب كبيرة، وحُكم مرتكب الكبيرة حكم الكافر، وكَفَّ عن أموال أهل الذمة وعن التعرض لهم مطلقا، وفتك في المنتسبين إلى الإسلام بالقتل والسبي والنهب.
فالجواب: كلما زاده نجدة بن عامر وعبد الله بن إباض إنما زادوه متأولين، وعن الزهري قال: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله متوافرون، فأجمعوا أن لا يقاد أحد، ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه" ذكره أحمد في رواية الأثرم واحتج به.
وهذا لم يخفَ على الشافعي رحمه الله، ولا عن غيره من محققي أهل السنة كأبي حنيفة؛ وسيأتي كلام ابن حجر في أن الخوارج الداعين إلى بدعة لا كالمطالبين بالحكم، وسيأتي أيضا بحثُ حكمِ من خرج دعوةً إلى بدعته.
وإذا ذهبنا مذهب الشافعي – رحمه الله – وغيره من أهل العلم كابن حجر في جعل عمر بن عبد العزيز خليفة راشدا فيكونَ عمله حجة، ومعلوم أن عمر لم يكفرهم في زمنه لما خرجوا بالموْصل.
الشبهة الثانية وهي قول من كفّرهم استنادا إلى أن الأئمة استدلوا عليهم بآيات نزلت في الكفار من المشركين واليهود والنصارى، وهذا يقتضي تكفيرهم.
والجواب ما قاله الشاطبي رحمه الله في الاعتصام (1/ 93): "فآية الرعد [وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ، وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] تشمل الحرورية بلفظها، لأن اللفظ فيها يقتضي العموم لغة، وإنْ حملناها على الكفار خصوصا؛ فهي تعطي فيهم حكما من جهة ترتيب الجزاء على الأوصاف المذكورة" اهـ.
أي أن الحكم على الخوارج بالقتل استدلالا بآيات نزلت في الكفار لا يقتضي تكفيرهم، كآية الرعد جاءت في اليهود خاصة، وشملت الحرورية بعموم لفظها من غير أن يكونوا يهودا قطعا.
قال الشاطبي: "وكذلك آية الصف، فإنها خاصة بقوم موسى عليه السلام، ومن هنا كان سعد [بن أبي وقاص] يسميهم الفاسقين – أعني الحرورية – لأن معنى الآية واقع عليهم وقد جاء فيها: ?والله لا يهدي الفاسقين? والزيغ أيضا كان موجود فيهم، فدخلوا في معنى قوله: ?فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم? ومن هنا يفهم أنها لا تختص من أهل البدع بالحرورية، بل تعم كل من اتصف بتلك الأوصاف التي أصلها الزيغ، وهو الميل عن الحق اتباعا للهوى". اهـ
خلاصة القول: أنه لا يقطع بكفر أحد من أهل القبلة على التعيين بنصوص تحتمل التأويل.
ـ[إبراهيم الجزائري]ــــــــ[08 - 03 - 09, 08:30 م]ـ
[التوصيف الفقهي لمسألة الحكم على الإباضية]
هذا، ولم يرد في كتب الفقه المعتمدة لدى مذاهب الأمصار الحكمُ صريحا على الإباضية - مطابقةً لا تبعًا - إلا نزرا يسيرا هنا وهناك؛ فإذا قلنا بأن مذهبهم سياسي (وهو الذي أميل إليه ما استتروا ببدعهم) فقد جاء في فتح الباري لابن حجر (12/ 298): "وقال الغزالي في ((الوسيط)) تبعا لغيره في حكم الخوارج وجهان: أحدهما أنه كحكم أهل الردة، والثاني أنه كحكم أهل البغي ... [قال ابن حجر] وليس كل ما قاله مطردا في كل خارجي؛ فإنهم على قسمين: أحدهما من تقدم ذكره، والثاني من خرج في طلب الملك لا للدعاء إلى معتقده، وهم على قسمين أيضا: قسم خرجوا غضبا للدّين من أجل جور الولاة وترك عملهم بالسنة النبوية فهؤلاء أهل حق، ومنهم الحسين بن علي وأهل المدينة في الحرّة والقرّاء الذين خرجوا على الحجّاج، وقسم خرجوا لطلب الملك فقط سواء كانت فيهم شبهة أم لا وهم البغاة" اهـ.
فعلى هذا التقسيم تكون الإباضية من القسم الذين خرجوا لطلب الملك سواء كانت في الحكّام شبهة أم لا، وهؤلاء هم البغاة الذين نزلت فيهم الآية (09) من سورة الحجرات (آية البغي): ?وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ?.
وبهذه الآية استدل الشافعي - رحمة الله عليه - وأصحابه على قتال الخوارج، وكذلك علي رضي الله عنه عندما أراد أصحابُه تسميتهم؛ فذكروا له الكفر فأبى، وذكروا له النفاق فأبى، ثم قال لهم: إخواننا بغوا علينا.
هذا تحقيق المناط عند الأصوليين وهو "أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله"، وهو من عويص العلم الذي تزل عنه الأقدام، وتضل فيه الأفهام، وتكثر حوله الأوهام، ألم تر إلى أصحاب علي بن أبي طالب كيف ترددوا في الحكم عليهم وهم من خيار التابعين وأكابرهم؛ فلا ينبغي خوض غماره إلا للعلماء المجتهدين المحققين الذين قلوا في زماننا بل هم أقل من القليل.
وفي معنى آية البغي جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله يقول: ((من أعطى إماما صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر))، وروى عَرْفَجة قال: قال رسول الله: ((ستكون هنات وهنات، ورفع صوته: ألا ومن خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان))؛ فكل من ثبتت إمامته وجبت طاعته وحرم الخروج عليه.
¥