واستُدل بالحديث على عدم صحة الأذان من غير وضوء، ومأخذ الحكم من الحديث من قوله: (لا يؤذن) وقد تقدم أنه خبر بمعنى الإنشاء، أي النهي، والقاعدة في الأصول: (أن النهي المطلق للتحريم) والقاعدة في الأصول: (أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه). وهذا القول قد يفهم من كلام عطاء السابق، وعزاه الصنعاني في السبل لأحمد رحمه الله، لكن المعروف عنه خلاف ذلك.
وقوله في الخبر: (لا يؤذن) فعل ينحل عن نكرة في سياق النفي، فيفيد العموم، فالقاعدة في الأصول: (أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم)، فتشمل أذان الصبح والظهر، وأذان الحضر والسفر .. إلخ.
وقد يستدل به على تحريم الإقامة من غير وضوء وعدم صحتها، لقوله: (لا يؤذن) على الوجه الذي تقدم تقريره في الأذان، ومأخذ ذلك أن لفظ الأذان في الشرع صادق على الأذان المعروف والإقامة، بدليل حديث عبد الله بن مغفل t في الصحيح: (بين كل أذانين صلاة).
وقوله في الأثر: (لا ينادي) قد يستدل به على تحريم الأذان والإقامة بغير وضوء، وعدم صحتهما على الوجه الذي تقدم تقريره في الخبر المرفوع، لكن الاستدلال به متوقف على الاحتجاج بقول الصحابي، والقاعدة في الأصول: (أن قول الصحابي ليس بحجة في إثبات الأحكام الشرعية)، ومتوقف أيضا على الاحتجاج بالنقلي الضعيف في إثبات الأحكام، والقاعدة في الأصول: (أن الدليل النقلي الضعيف ليس بحجة في إثبات الأحكام).
ويخرج على قول من قال بحجية الخبر الضعيف إذا لم يكن في الباب ما يدفعه وكان الضعف منجبرا = القول بحجية الأثر الضعيف الكائن على هذه الصفة، ومن ثم ينظر في أثر أبي هريرة هذا؛ هل ضعفه منجبر أم لا؟ وهل في الباب ما يدفعه أم لا؟.
وجمهور العلماء على جواز الأذان والإقامة بغير وضوء وصحتهما، ودليلهم في ذلك الاستصحاب، فالأصل براءة الذمة من الواجبات، وقرروا استحباب الطهارة لهما لحديث المهاجر بن قنفذ t عند الأربعة إلا الترمذي أنه أتى النبي ? وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه فقال: «إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر» أو قال: «على طهارة».
فاستحباب الوضوء للسلام المستفاد من فعله ? إذ القاعدة في الأصول: أن فعل النبي ? يفيد الاستحباب، معللٌ بعلة منصوصة وهي كون السلام ذكرا لله تعالى، والقاعدة في الأصول: (أن العلة تعمم معلولها [أي الحكم]) فيستفاد من ذلك استحباب الوضوء لكل ذكر لله تعالى.
هذا وقد ذهب الحنابلة في رواية إلى عدم جواز أذان وإقامة الجنب وعدم صحتهما، كذا في المغني والإنصاف، وقد اختار هذه الرواية الخرقي أبو القاسم في مختصره، واستُدل لهم بحديث وائل بن حجر عند البيهقي في السنن الكبرى وفيه أنه قال: (حق وسنة مسنونة ألا يؤذن أحدكم إلا وهو طاهر). والخبر ضعيف، في إسناده انقطاع؛ عبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه، والقاعدة في الأصول: (أن انقطاع الخبر يقتضي رده)، وفيه بحث: هل هو من الضعيف المنجبر الذي ليس في الباب ما يدفعه ومن ثم يصح الاستدلال به بناء على أصول بعض الحنابلة أم لا؟.
هذه مناقشته من جهة ثبوته، ثم فيه مناقشة من جهة دلالته: هل قول الصحابي: (من السنة) من غير إضافتها للنبي ? يقتضي الرفع أم لا؟ فيه خلاف بين الأصوليين والصحيح عندي أنه لا يقتضي الرفع، بناء على ذلك فالقاعدة في الأصول: (أن قول الصحابي: (من السنة) إذا لم يضفها للنبي ? ليس بحجة في إثبات الأحكام)، وحيث قيل: إنه ليس بمرفوع، فهو موقوف، وفيه بحث أصولي، وهو الاحتجاج بقول الصحابي، وفيه خلاف بين الأصوليين والصحيح عدم الحجية، وبناء على ذلك فالقاعدة في الأصول: (أن قول الصحابي ليس بحجة) وفيه بحث آخر راجع لمبحث دلالة الألفاظ عند الأصوليين، وهو أن قوله: (طاهر) لفظ مشترك عند جماعة، فيصدق على الطاهر من الحدث الأصغر والأكبر ومن النجاسة، والمسلم، فهل يحمل المشترك على جميع معانيه أم لا؟ فيه خلاف بين الأصوليين، وحيث قيل: لا يحمل على جميع معانيه فإنه يكون مجملا، والقاعدة في الأصول: (يجب التوقف في المجمل حتى يرد بيانه). ويلزم الحنابلة إذا استدلوا بهذا الخبر أن يقولوا بعد صحة أذان وإقامة المحدث حدثا أصغر.
هذا وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه يجوز أذان وإقامة الجنب وتصحان لكن مع الكراهة لما تقدم، ومحل الخلاف حيث كان الأذان والإقامة خارج المسجد، أما إذا كان في المسجد ففيه خلاف مبني على الخلاف في جواز دخول الجنب للمسجد، فالذين قالوا بعدم الجواز اختلفوا:
فمنهم من قال بعدم الصحة لأن القاعدة في الأصول: (أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه) وهذا عمل ليس عليه أمر النبي r فهو مردود، كما صح الخبر عنه.
ومنهم من قال بالصحة وجعل هذا نظير الصلاة في الدار المغصوبة.
واستدل بعض الفقهاء بحديث عائشة في صحيح مسلم: (كان رسول الله r يذكر الله على كل أحيانه) على جواز الأذان والإقامة من المحدث حدثا أصغر أو أكبر، قلت: ولا يصح الاستدلال به لأنه حكاية فعل والقاعدة في الأصول: (أن الفعل لا عموم له).
قال أبو عبد الله غفر الله له: والتحقيق في هذه المسألة - بناء على ما سبق - جواز الأذان والإقامة من المحدث حدثا أصغر وأكبر مع صحتهما، واستحباب الوضوء لهما، ويستثنى من ذلك الإقامة فلا تجوز من المحدث إذا كان يترتب على عدم طهارته فوات شيء من الصلاة فيحرم ذلك، لحديث أبي هريرة t في الصحيحين أن النبي ? قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا» فقوله: «فكبروا» أمر، والقاعدة في الأصول: (أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب)، والقاعدة في الأصول: (أن الأمر المطلق يقتضي الفور) فيجب أن يكبر المأموم للصلاة عقب تكبير الإمام مباشرة، والقاعدة في الأصول (أن الأمر بالشيء نهي عن ضده)، والقاعدة في الأصول (أن النهي يقتضي التحريم) والقاعدة في الأصول: (أن النهي يقتضي الفور). فإذا تقرر تحريم التراخي في الدخول مع الإمام في الصلاة فالقاعدة في الأصول: (أن وسيلة المحرم محرمة).
والحمد لله رب العالمين.