للعموم، ولكل زمان، ولكل مكان، فناسب أن يخاطبهم بالوسائل التي يعتادها العموم لا الخصوص،
وبما أننا عرضنا لذكر الوسائل فلا بد من التنويه بما وجه إليه الأخ مسدد من ضرورة التوازن بين
الوسائل والغايات، فالغاية التي ينشدها هي الحقيقة المجردة (وهي وجود الهلال)، وهذا خطأ،
ولا يمكن أن يأتي بدليل واحد في إثبات هذه الغاية، بل الغاية التي ينشدها الشرع ومن يتمسك بالشرع
هو الرؤية، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: إذا وجد حقيقة، بل قال إذا رأيتموه، والرؤية
قد تكون رؤية حقيقية وقد تكون رؤية خاطئة، والاحتمال وارد، حتى في حديث الأعرابي، بل في
الرؤية التي عول عليها سلف الأمة، وهو الثبوت بعدلين (على قول الجمهور) أو عدل واحد على
(قول البعض)، فهذا يحتمل عليه الخطأ، ومع ذلك لم يقيده الرسول صلى الله عليه وسلم بموافقة
الحقيقة المجردة ...
وقد نبه الأخ مسدد إلى أن الحسابات اليقينة التي تنفي الرؤية ألا تثير الشك عند الرائي أو من يعتمد
على شهادته في إثبات الرؤية؟؟؟
وأقول: نعم تثير الشك، والرؤية يقين، واليقين لا يزول بالشك ... طيب لو قالوا: والحساب يقين،
والرؤية يقين، وإذا تعارض يقينان فلا بد من ترجيح أحدهما لأنه يستحيل أن يتناقضا، نقول:
يجب رفع الحساب، لأن الشرع قضى بإهداره، ولا نقضي برفع الرؤية لأن الشرع اعتبرها مطلقا
دون قيد ...
سيقال: كيف نصوم برؤية مشكوك فيها، مشكوك في مصداقية الرائي، فلعله وهم أو نسي أو أخطأ
في الرؤية ... فيقال بنفس الجهة: فلعل الحاسب وهم أو أخطأ، فسيقال: لو أخطأ حاسب واحد فاحتمال
أما لو اجتمع الحاسبون على قول واحد فكيف نهدرهم جميعا لقول راء واحد أو اثنين؟؟؟
والجواب: أن هذا الإهدار هو محك التسليم الذي يريده الشرع من المسلم، فالشرع لم يكلفنا بشيء
إلا ويريد منا أن نسلم به ونعتقد لزومه في حقنا، حتى وإن كنا نعتقد أن النفع والصواب في غيره،
إذ كيف تستفيض الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: إذا رأيتموه فصوموا، فنضع نحن
قيدا: إذا رأيتموه (ولم يتعارض مع الحساب) فصوموا!!!
هذا لعمر الله استدراك على الشرع ...
فإن قيل: بل هو استدراك يقتضيه الواقع والحقيقة المجردة، كنحو من قال: غربت الشمس فقال له
الناس: ما غربت، فيقال: نعم ... ولكن الاستدراك بالحساب قد عرف في الشرع إهداره، ولو استدرك
راء على آخر وأوهمه وأقام البينة على وهمه في الرؤية ساغ الأخذ به، أما الاعتبار بالحساب فهو
إهدار للطريقة الشرعية التي أقامها الشرع في إثبات الأهلة، وهي الرؤية المجردة، ومعنى المجرد
أي المطلقة من أي قيد، المسرحة من أي شرط ...
بقي أن نتعرض لقضية إمكانية الرؤية للهلال وعمره لما يكتمل عشر ساعات أو خمس عشر ساعة،
على خلاف بين الفلكيين في حد العمر الأقصى الذ يرى له الهلال ..
والذين جزموا باستحالة رؤية الهلال الذي لم يكتمل عشر ساعات أو خمس عشر ساعة إنما بنوا على
الإحالات والأخبار والبلاغات والإمكانية الاعتيادية التي لها عوامل ومعطيات اتفق الفلكيون على أن
معظمها صعب التقدير مثل الانكسار الجوي وظاهرة السراب ونحو ذلك، ومثل هذا لا يمكن أن يكون
دليلا قاطعا في نفي الإمكانية ... ويبقى أن يقال: إنه حتى لو قضت العادة باستحالة الرؤية ولكن
أثبتها عدل، فإن ما يجب ظاهرا على المسلمين القبول لشهادة الرائي والعمل بها، ولم يجر في قضاء
المسلمين التعويل على الحساب الفلكي في اعتبار نفي شهادة الرائين للهلال ....
وكل قضاء في الإسلام مبني على عد الشهور القمرية لم يعلقه أحد على قول أهل الحساب، مثل أن
يقول قائل: لو كان غدا أول رمضان فامرأتي طالق، فلم يفت أحد بالتعويل على أهل الحساب لا إثباتا
ولا نفيا ...
بقي أن نتعرض لشبه أثارها الأخ مسدد وغالبا ما يثيرها الفلكيون عند الحديث عن اختلاف المطالع،
وهو أن الهلال الذي ولد في بلاد الجزيرة مثلا إذا مر عليه أكثر من خمس عشر ساعة فلا بد أن يراه
الناس في أمريكا، ولو لم تمر الفترة المحتومة (عشر أو خمس عشرة ساعة) فإنه يستحيل رؤيته
كاستحالة رؤية غروب الشمس في حق أهل مصر حال غروبها في السعودية مثلا ...
فاعلم أخي القارئ أنه لا خلاف بين أهل العلم على حقيقة اختلاف المطالع، ولكن الخلاف بينهم
في اعتبارها، فلم يعتبرها الجمهور واعتبرها البعض، ولكن أهل الفلك لهم مسلك في اختلاف المطالع
يختلف عن مسلك الفقهاء، وطريقتهم مبنية على نظرياتهم في الحساب بل حتى في عد الأيام بناء
على خطوط الطول والخط الفاصل بين اليومين، ويقيسون هذا على اختلاف الأوقات بين الصلوات
في أماكن متفرقة .. والظاهر وجود الفرق ..
فغروب الشمس في حق أهل مكة هو وقت المغرب في حقهم دون غيرهم، لأن الشرع اعتبر المشارق
والمغارب ولأن التغير الفلكي هنا آني ودائم ويومي أي أنه تقدير لعبادة يومية مستمرة تتناوب مع تناوب
الإشراق والغروب، أما التغير الفلكي في القمر فهو شهري لعبادة شهرية تتناوب شهريا على العالم بخلاف
الشمس ولذلك يبعد أن تتباعد رؤية الهلال أكثر من ثلاثة أيام، فمحيط الشهر في حق الناس على الكرة
الأرضية لن يختلف كثيرا، فدل على تقارب الوقت جدا وعلى اعتباره شهرا واحدا على كل الأرض،
أما التوقيت لغروب الشمس فيختلف كثيرا جدا بحسب زاوية الغروب والشروق لكل مكان، لذلك نجد
صلاة المغرب تتكرر مئات المرات في اليوم الواحد في أمكان متفرقة من الأرض ..
هذه خطرات وإشارات بثثتها عرضا آمل أن يكون فيها إثراء للبحث وإغراء للمناقشة سائلين الله تعالى
أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ...
¥