وهذا الذي اختاره الإمام أبو عمر بن عبد البر ()، ونقله عن جماعة من الصحابة، وحكاه أيضاً عن نصّ الشافعي، كما سيأتي إن شاء الله.
أمّا الأحاديث الدالة على ذلك ففي الصحيحين عن زيد بن ثابت ? قال: ((احتجر النبي ? حُجَيْرَةً بِخَصَفَةٍ أو حصير في المسجد)) وفي رواية: ((رمضان)) () فخرج رسول الله ? يصلي فيها. قال: فَتَتَبَّعَ () إليه رجال () وجاءوا يصلون بصلاته، قال: ثم جاءوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله ? عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله ? مغضباً فقال: ((ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنّه سيُكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة)). وهذا لفظ مسلم ().
ورواه الدارمي () في مسنده () بإسناد صحيح، ولفظه: ((فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الجماعة)) ().
وأخرجه [5/أ] [الترمذي] () مختصراً بلفظ: ((أفضل صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة)) () ثم قال: وفي الباب عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وأبي سعيد وأبي هريرة [وابن عمر] () وعائشة وعبد الله بن سعد () وزيد بن خالد الجهني.
قلت: حديث أبي () سعيد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من حديث جابر عن أبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي ? قال: ((إذا قضى أحدكم صلاته في المسجد فليجعل لبيته نصيباً من صلاته؛ فإن الله عز [وجلّ] جاعل في بيته من صلاته خيراً)) ()، ثم رواه جابر عن النبي ? من غير ذكر أبي سعيد ().
وحديث عبد الله بن سعد: رواه الترمذي () والنسائي () في سننهما وابن خزيمة في صحيحه () عن عبد الله بن سعد قال: سألت رسول الله ? عن الصلاة في بيتي والصلاة في المسجد فقال ?: ((قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، ولأن أصلي في بيتي أحبّ إليّ من أن أصلي في المسجد إلا المكتوبة)) وهذا لفظ ابن خزيمة في صحيحه.
وروى فيه أيضاً عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة () عن أبيه () عن جدّه ? قال: صلّى النبي ? صلاة المغرب في مسجد بني الأشهل فلما صلّى قام ناس يتنفلون فقال النبي ?: ((عليكم بهذه الصلاة في البيوت)) ()، ورواه النسائي أيضاً ().
وعن محمود بن لبيد () ? قال: أتى رسول الله ? بني عبد الأشهل فصلّى بهم المغرب فلمّا سلّم قال لهم: ((اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم)) قال عاصم بن عمر بن قتادة (): فلقد رأيت محمود بن لبيد وهو إمام قومه يصلّي بهم المغرب فيجلس بفناء المسجد حتى يقوم قبيل العتمة فيدخل البيت فيصليهما. أخرجه ابن خزيمة في صحيحه أيضاً ().
فهذه الأحاديث كلها دالة دلالة قوية ظاهرة على ترجيح فعل النافلة في البيوت [5/ ب] على فعلها [في المسجد] وإن كان أحد المساجد الثلاثة، كما دلّ عليه حديث عبد الله بن سعد المتقدم ذكره؛ لأن النبي ? رجح الصلاة في بيته على الصلاة في مسجده الذي هو أحدها، فهو صريح في المقصود، ومثله رواية () أبي داود لحديث [زيد] بن ثابت الآتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وهذا أولى بالترجيح من طريق الجمع بينهما؛ لأنه قد يُقال: إنَّ قوله ?: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه)) () وكذلك بقية الأحاديث التي تشبهه عام في جميع الصلوات كما تقدم من اختيار الشيخ محيي الدين رحمه الله في شموله الفرض () والنفل () فلم يدخله تخصيص بشيء.
وقوله ?: ((أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)) () وإن كان عاماً فقد اُختصّ () بأشياء منها: ما شُرعت فيه الجماعة، وكذلك تحية المسجد، وركعتي الطواف وغير ذلك، وإذا تعارض عامان وأحدهما قد خُصَّ والآخر باقٍ على عمومه، قُدِّم الباقي على عمومه على الذي دخله التخصيص.
وجواب هذا أولاً (): يمنع العموم في قوله ?: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه)) وأمثاله من الأحاديث، فإنها نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم لها على الراجح، بل هو مطلق في كلّ الصلوات، والمطلق لا عموم له إلا على جهة البدل، فأمّا عموم الشمول فلا.
¥