فعامة الناس كانوا متطلعين إلى هذه الاحتفالات البدعية لحاجتهم لما ينفق فيها من الأموال، ولرغبتهم في ترويح أنفسهم، والاستجابة لهواها، والخوف من السلطان ومن يعلم بدعية هذه الاحتفالات وغيرها من المحدثات لا يستطيع الإنكار لما ينتظره من القمع والتعذيب. ()
فكان مناخا مناسبا لانتشار البدع، وتعويد الناس عليها، وتعلقهم بها، لما يعلموا من وراء ذلك من الترغيب والترهيب من السلطان الظالم.
بالإضافة إلى أنهم كانوا يشعرون في قرارة أنفسهم - والله أعلم – بأنهم أدعياء على النسب، فظنوا - وتحقق ظنهم – أن إقامة الموالد للنبي ? تثبت للناس صحة نسبهم وانتسابهم إلى آل البيت، فابتدعوا تلك الموالد وأنفقوا عليها الأموال الطائلة، والله أعلم.
وأما ما ذكره أبو شامة في كتابه (الباعث على إنكار البدع والحوادث) من أن أول من احتفل بذلك بالموصل، الشيخ عمر بن محمد الملا احد الصالحين المشهورين، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل.
فلا يدل على أن أول من احتفل بالمولد النبوي، هو صاحب إربل؛ لان أبا شامة – رحمه الله – قيد هذه الأولوية بقوله: (أول من فعل ذلك بالموصل). فكلامه يدل على أن أول من احتفل بالمولد النبوي في الموصل هو صاحب إربل، إقتداء بالشيخ عمر بن محمد الملا، وليس فيه دلالة على أن أول من احتفل بالمولد النبوي على الإطلاق هو صاحب إربل.
وأطلق السيوطي، - رحمه الله – القول في أن أول من احتفل بالمولد النبوي هو صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين، احد الملوك الأمجاد.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: (وهذه البدعة أول من أحدثها أبو سعيد كوكبري في القرن السادس الهجري).
وقال الشيخ حمود التويجري: (إن الاحتفال بالمولد بدعة في الإسلام أحدثها سلطان إربل في أواخر القرن السادس من الهجرة).
فإذا عرفنا ذلك، فلا شك أن العبيديين هم أول من احتفلوا بالمولد النبوي، حسب ما ورد في كتب التاريخ والسير؛ لان العبيديين دخلوا مصر وأسسوا ملكهم في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، واستمرت دولتهم إلى القرن الخامس، ونصف القرن السادس الهجري.
فقد دخل المعز القاهرة في سنة 362 هـ في رمضان , وكان ذلك بداية حكمهم في مصر. وقيل: في سنة 363 هـ. وكان آخر خليفة فيهم هو العاضد، توفي سنة 567 هـ.
وأما مظفر الدين صاحب إربل، فولادته كانت في سنة 549 هـ، وتوفي سنة 630 هـ.
فهذا دليل قاطع على أن العبيديين سبقوا صاحب إربل بالاحتفال بالمولد النبوي.
فصاحب إربل ليس أول من احتفل بالمولد النبوي، وإنما سبقه إلى ذلك العبيديون بحوالي قرنين من الزمان، وهذا لا يمنع أن يكون صاحب إربل هو أول من احتفل بالمولد النبوي في الموصل؛ لأن احتفالات العبيديين كانت في دولتهم – وهي في مصر كما ذكر في كتب التاريخ -، والله اعلم. ()
أسباب نشأة هذه البدعة
من خلال التتبع الواقعي لتاريخ الاحتفال بالمولد واستقراء ما يجري فيه من وقائع ... يمكن أن نجمل الدافع إلى ذلك في عدة أسباب وهي:
1 - نشر العقائد الشيعية من خلال التذرع بحب آل البيت والارتباط بهم.
2 - نيل الشهرة والصيت؛ وهذا يختص بمن ينفق على هذه الموالد ويرعاها.
3 - كسب الولاء الديني، وهو الدافع الذي يدفع (مشايخ الطرق) للتسابق في إقامة السرادقات، والمشي في المسيرات من أجل الاستزادة من الأتباع.
4 - الارتزاق، وهو ما يقوم به طائفة عريضة من تجار الحلوى وبائعي (أمور أخرى) ومؤجري الألعاب والملاهي والبائعين الجوالين، بل مشايخ الطرق المنتفعين بما يجري في الأضرحة، والمداحين والمنشدين والمغنيين والراقصات وأمثالهم.
(وأظن أن هذا السبب هو الغالب على أصحاب الموالد، فانا أعلم منهم أناس يستدينون طوال العام فإذا كانت أيام المولد سددوا ما عليهم من ديون , ثم تمتلئ بيوتهم من الطعام والشراب ممن يدعون أنهم ينفقون في سبيل الله، وهؤلاء والله لو مر عليهم عام وآخر ولم يرزقوا من هذه الموالد لتركوها، ولو أنهم اضطروا لأن يُخرِجوا من بيوتهم لأبغضوها).
5 - إتاحة الفرصة أمام الفساق والفجار الذين يسعون وراء الحرام؛ فإذا ما سمعوا بمولد قالوا: هلموا إلى بغيتكم؛ حيث يتسنى لهم فيها قضاء مآربهم.
¥