وقال الإمام ابن مُفلِحٍ الحَنبَلِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في «الفُرُوعِ»: "ولِيَحذَرَ العَاقِلُ من إطلاقِ البَصَرِ، فإنَّ العَينَ تَرى غَيرَ المقدُورِ عَليه عَلَى غَير مَا هُو عَليهِ،وَرُبَّمَا وَقَعَ مِن ذَلِكَ العِشقُ، فَيهلِكَ البَدَنُ والدِّينُ! وكَمْ مِن نَظْرَةٍ أَلْقَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا الْبَلَابِلَ!. وَرَوَى الحاكِمُ في «تاريخِهِ» عَن ابن عُيينَةَ قَالَ: حَدَّثني عَبدُ اللهِ بنُ المُبارَكِ، وَكانَ عاقِلاً، عَن شَيخٍ مِن أشياخِ الشَّامِ قَالَ: مَن أعطَى أسبَابَ الفتنةَ نفسَه أوَّلاً لم يَنجُ آخراً، وإن كَان جَاهِداً".
أما كلامُ الْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ شمَسِ الدِّينِ ابْنِ قَيِّمِ الجَوزيَّةِ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في هَذَا البَابِ فإنه غَايةٌ في النَّفَاسَةِ والأهميَّةِِ، وسنذكر في الفصل القادم شيئاً منهُ أيضاً إن شاءَ اللهُ تَعالى.
قَالَ فِي «الجَوَابِ الكَافِي لِمَن سَألَ عَن الدَّوَاءِ الشَّافِي»: "أَمَّا اللَّحَظَاتُ فَهِيَ رَائِدَةُ الشَّهْوَةِ وَرَسُولُهَا، وَحِفْظُهَا أَصْلُ حِفْظِ الْفَرْجِ، فَمَنْ أَطْلَقَ بَصَرَهُ أَوْرَدَهُ مَوَارِدَ الْهَلَكَاتِ، وَالنَّظَرُ أَصْلُ عَامَّةِ الْحَوَادِثِ الَّتِي تُصِيبُ الْإِنْسَانَ، فَإِنَّ النَّظْرَةَ تُولِدُ خَطْرَةً، ثُمَّ تُولِدُ الْخَطْرَةُ فِكْرَةً، ثُمَّ تُولِدُ الْفِكْرَةُ شَهْوَةً، ثُمَّ تُولِدُ الشَّهْوَةُ إرَادَةً، ثُمَّ تَقْوَى فَتَصِيرُ عَزِيمَةً جَازِمَةً فَيَقَعُ الْفِعْلُ وَلَا بُدَّ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ، وَفِي هَذَا قِيلَ: (الصَّبْرُ عَلَى غَضِّ الطَّرْفِ أَيْسَرُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى أَلَمٍ بَعْدَهُ) ".
وقال في «الفوائد»: "إذَا عَرَضَت نَظرَةٌ لا تَحِلُّ، فَاعلَم أنَّهَا مِسعَرُ حَربٍ فاستتر مِنهَا بحِجَابِ: ? قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ .. ?". فَقَد سَلِمتَ مِن الأثَرِ وَكَفَى اللهُ المؤمنينَ القِتَالَ".
وَقَالَ الشيخُ شَرَف مُحمَّد الْحِجَّاوِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في «شَرحِهِ لمنظُومَةِ الآدَابِ»: "فُضُولُ النَّظَرِ أَصْلُ الْبَلَاءِ لِأَنَّهُ رَسُولُ الْفَرْجِ، أَعْنِي الْآفَةَ الْعُظْمَى وَالْبَلِيَّةَ الْكُبْرَى، وَالزِّنَا إنَّمَا يَكُونُ سَبَبُهُ فِي الْغَالِبِ النَّظَرَ، فَإِنَّهُ يَدْعُو إلَى الِاسْتِحْسَانِ وَوُقُوعِ صورَةِ الْمَنْظُورِ إلَيْهِ فِي الْقَلْبِ وَالْفِكْرَةِ، فَهَذِهِ الْفِتْنَةُ مِنْ فُضُولِ النَّظَرِ، وَهُوَ مِنْ الْأَبْوَابِ الَّتِي تُفْتَحُ لِلشَّيْطَانِ عَلَى ابْنِ آدَمَ.
فَصلٌ
فِي فَوَائِدِ غَضِّ الْبَصَرِ، من كلام الْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ
ذَكَرَهَا في «الجَوَابِ الكَافِي لِمَن سَألَ عَن الدَّوَاءِ الشَّافِي» وفي «رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ الْمُشْتَاقِينَ»، وهي غَايةٌ في النَّفَاسَةِ وَالرَّوعَةِ، حَريَّةٌ بالتدبُّر والتأمُّلِ، وها أنا أذكُرُهَا هُنَا بشيءٍ مِنَ التَّصَرُّفِ.
قال:" إحْدَاهَا: تَخْلِيصُ الْقَلْبِ مِنْ الْحَسْرَةِ فَإِنَّ مَنْ أَطْلَقَ نَظَرَهُ دَامَتْ حَسْرَتُهُ، فَأَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الْقَلْبِ إرْسَالُ الْبَصَرِ، فَإِنَّهُ يُرِيهِ مَا لَا سَبِيلَ إلَى وُصُولِهِ وَلَا صَبْرَ لَهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ غَايَةُ الْأَلَمِ.
وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْت طَرْفَك رَائِدًا رَأَيْتَ الَّذِي لَا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌ 1 لِقَلْبِكَ يَوْمًا أَتْعَبَتْك الْمَنَاظِرُ عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ 1 ِ
الثَّانِيَةُ: أَنَّ غَضَّ الطَّرْفِ يُورِثُ الْقَلْبَ نُوراً وَإِشْرَاقاً يَظْهَرُ فِي الْعَيْنِ وَفِي الْوَجْهِ وَفِي الْجَوَارِحِ، كَمَا أَنَّ إطْلَاقَ الْبَصَرِ يُورِثُ ذَلِكَ ظُلْمَةً وَكَآبَةً.
¥