ثم تزعم الرسالة أن السيوطي المحدّث وهو يخرّج حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((مررت بقبر موسى وهو قائم يصلي فيه)) يقول: خرّجه إبراهيم في الحلية؟ تخيّلوا السيوطي الذي اشتهر بتأليف المجاميع وكتب التخريج وعزو الأحاديث كالجامع الكبير، والصغير، والخصائص، والدر المنثور، يقع في مثل هذه الأخطاء الباردة! فالحديث مشهور جداً وهو في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وسنن النسائي فهل يُعقل أن يعزوه السيوطي للحلية فقط ولا يعزوه إلى هذه الأمهات؟
ثم يقول السيوطي في الرسالة المزعومة: خرّجه إبراهيم في الحلية.!!! فهل تصدقون أن يقع السيوطي في مثل هذه الهفوة فلا يعرف اسم صاحب الحلية؟!!!! وقد كان ينقل عنه في كتبه مئات الأحاديث ويسميه باسمه المعروف عند أهل الحديث، وهو أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني.
أم أنّ الذي كتب هذه الرسالة شخص آخر لا يمتّ بصلة لعلم الحديث؟.
ثم إن كل من يقرأ الرسالة وهي تقع في أربع صفحات فقط!! منها سطر ونصف للعنوان!! سيلاحظ أن الكاتب قريبُ عهدٍ بزماننا لا بزمان السيوطي.
ولكن السؤال الذي حيّرني، من هو واضع هذه القصّة؟
وعند قراءتي لكتاب "المقاصد الحسنة" للسخاوي بتحقيق الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري، وهو أحد أعلام علماء الصوفية في عصرنا، بدأ الجواب يرتسم أمامي شيئاً فشيئاً، وذلك عندما قال الشيخ الغماري في تعليقه على حديث ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)) رقم [45] في كتاب المقاصد الحسنة للسخاوي صفحة: (29) قال: ((قرأته مسنداً بإسنادٍ ضعيف في كتاب الأربعين المنسوب للقطب الكبير أحمد الرّفاعي، لكنّي غير واثق من صحّة ما يُنسب إليه من المؤلّفات لأنها من صُنع أبي الهدى الصيّادي الذي كان يكتب مؤلّفات في مناقب الرّفاعي وينسبها إلى علماء في القرن الثّامن الهجري أو قبله أو بعده)). انتهى كلام الشيخ الغماري.
وعندما اطلعتُ على كتاب "قلادة الجواهر" لأبي الهدى الصيّادي وجدتُه يستخدم الكلام نفسه الموجود في رسالة "الشرف المحتّم" المنسوبة للسيوطي وبالحرف الواحد، مع أنه لم يشر إلى تلك الرسالة ولو كانت موجودة حينئذٍ لفرح بها الصيادي كثيراً ولجعلها العمدة فيما يرويه من كرامات وفضائل للرفاعي، ولكنه لم يفعل! وبعد أن ظهرت رسالة "الشرف المحتّم" وإذا بها مصوغة بالجمل والألفاظ نفسها التي صاغ بها الصيّادي كتابه "قلادة الجواهر"! فهل يُعقل أن السيوطي المتوفّى سنة 911 هـ يسرق عبارات الصيّادي المتوفّى سنة 1327هـ؟
والعكس غير ممكن لأنّ الصيادي ليس له أدنى مصلحة في إخفاء رسالة للسيوطي تدعم توجهه وتعطيه المصداقية ولو عند أنصاف المتعلّمين.
ثمَّ إنني لمّا بحثتُ في مؤلّفات السيوطي لم أجد لهذه الرسالة من ذكر، ولكنني فوجئتُ بذكرها ضمن مؤلّفات السيوطي في كتاب "إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون" لإسماعيل بن محمد الباباني البغدادي (وفاته 1339هـ 1920م) وهو معاصر لأبي الهدى الصيّادي المتوفى سنة (1327هـ 1910م) وكما هو معلوم عند أهل العلم أنّ الكتاب الأصلي وهو " كشف الظنون " لحاجي خليفة، ليس فيه ذكر لهذه الرسالة ضمن مؤلّفات السيوطي.
والذي أضافها هو إسماعيل البغدادي صاحب الذيل، فتبيّن بوضوح أنّ واضع الرّسالة هو بالفعل أبو الهدى الصيادي.
كذلك فإن أبا الهدى الصيّادي كان مشهوراً عند علماء الصوفية قبل غيرهم من أنه يخترع أشخاصاً وقصصاً وأنساباً وكتباً وينسبها لمن يشاء.
وأوّل اختلاقاته أنه نسب نفسه من طريق أبيه إلى الشيخ أحمد الرّفاعي ومن طريق أمّه إلى الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه!
والمعروف أن خالد بن الوليد انتهت ذريّته في عصر التابعين ولا عقب له بعد ذلك وأمّا الشيخ أحمد الرّفاعي فكل المراجع الكبيرة تنصّ على أنه لا عقب له كما قال ابن خلّكان في "وفيات الأعيان" (1 ـ172) في ترجمة الرفاعي: ((ولم يكن له عقبٌ وإنما العقب لأخيه)) انتهى، وكذلك ذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية".
¥