ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قَتْلُ ابن حارثة و جعفر وابن رواحة جلسَ يُعرفُ فيهِ الحُزنُ وأنا أنظرُ من صائر الباب شق الباب، فأتاه رجلٌ فقال: إن نساء جعفر - وذكر بكاءهن - فأمره أن ينهاهن فذهب، ثم أتاه الثانية لم يطعنه، فقال: إنهَهُن، فأتاه الثالثة قال: والله غلبننا يا رسول الله، فزعمَتْ أنه قال: فاحثُ في أفواههن التراب، فقلتُ: أرغم الله أنفك، لَمْ تفعلْ ما أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تتركْ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء)
أخرجه البخاري: كتاب الجنائز: باب من جلس عند المصيبة يُعرف فيه الحُزن (رقم 1299)
ومسلم: كتاب الجنائز: باب التشديد في النياحة (رقم 30)
وأبو داود: كتاب الجنائز: باب الجلوس عند المصيبة (رقم 3122)
والنسائي: كتاب الجنائز: باب النهي عن البكاء على الميت (رقم 1846)
وأجاب المانعون من (الجلوس) من أن جلوسه صلى الله عليه وسلم لم يكن للتعزية، بدليل أن الحديث لم يشر إلا إلى جلوسه صلى الله عليه وسلم في مسجده حزينا، ولم تذكر أنه جلس للتعزية.
قال الزين بن المنير: (الاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم فمن أصيب بمصيبة عظيمة لا يفرط في الحزن حتى يقع في المحذور من اللطم و الشق و النوح و غيرها، و لا يفرط في التجلد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب، فيقتدي به صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بأن يجلس المصاب جلسة خفيفة بوقار و سكينة تظهر عليه مخايل الحزن ويؤذن بأن المصيبة عظيمة.) (13)
و قال ابن عابدين الحنفي: (ويجاب عنه بأن جلوسه صلى الله عليه وسلم لم يكن مقصودا للتعزية.) (5)
/\/\/\/\/\/\/\/\/
المسألة الثانية: (اجتماع الناس للتعزية عند أهل الميت والجلوس عندهم)
اعلم أن من العلماء من يفرق بين هذه المسألة و التي قبلها، ومنهم من يجعل الكلام فيهما واحدا ويكتفي بالكلام على مسألة - جلوس أهل الميت - وذلك واضح فيما سبق.
القول الأول:
ذهب الإمام الشافعي، و الحنفية في قول، و الإمام أحمد في رواية عنه، و المالكية في قول لهم إلى أن الجلوس للتعزية (مكروه و بدعة منهي عنها).
وقد مرت أقوالهم فيما سبق ضمن المسألة الأولى، و إذا كان جلوس (أهل الميت للتعزية) مكروها أو - بدعة - كما صرح به بعض الأئمة، فمن باب أولي (جلوس الناس للتعزية) عند أهل الميت، وهذا واضح بين
القول الثاني:
رواية عن الإمام أحمد، وقول لبعض المالكية، أن جلوس القادمين للتعزية (جائز) لا بأس فيه.
قال المرداوي الحنبلي: (قال الخلال: سهَّل الإمام أحمد في الجلوس إليهم في غير موضع.) (8)
وقال ابن عبدالبر المالكي: (وأرجو أن يكون المتجالسة في ذلك خفيفا).) (14)
و الراجح في هذه المسألة إن شاء الله تعالى القول الأول القائل (بكراهة الجلوس إلى أهل الميت للتعزية وأنه بدعة ومن أعمال الجاهلية)
والأدلة على صحة هذا القول ما يلي:
الدليل الأول:
ما رواه جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: (كُنا نَعدُّ الاجتماع إلى أهل الميتِ، وصنعة الطعام بعدَ دفنهِ من النِّياحة).
أخرجه الإمام أحمد: في مسنده (2/ 204 رقم 6902).
وابن ماجه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في النهي عن الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام (رقم 1612) بإسنادين.
وأسلم الواسطي: في تاريخ واسط (ص 107) من قول عمر رضي الله عنه.
قال البوصيري في كتابه (مصباح الزجاجة) لزوائد ابن ماجه: (هذا إسناد صحيح الأول على شرط البخاري، والثاني على شرط مسلم) (ص 236) تحقيق / محمد بن مختار بن حسين.
قال الإمام الشوكاني: (يعني أنهم كانوا يعدون الاجتماع عند أهل الميت بعد دفنه وأكل الطعام عندهم نوعا من النياحة؛ لما في ذلك من التثقيل عليهم وشغلهم مع ما هم فيه من شغلة الخاطر بموت الميت، وما فيه من مخالفة السنة؛ لأنهم مأمورون بأن يصنعوا لأهل الميت طعاما فخالفوا ذلك وكلفوهم صنعة الطعام لغيهم.) (15)
وقال الشيخ أحمد بن عبدالرحمن البنا: (ويُستفاد من حديث جرير عدم جواز الاجتماع إلى أهل الميت كما يُفعل الآن لأجل التعزية.) (16)
¥