لكن العلماء أخذوا برواية بلال ومن معه من الأصحاب لأنها زيادة ثقة ولأنه مثبت والمثبت مقدم على النافي كما هي القاعدة في مثل هذا الاختلاف. ومعنى قول أسامة: لم يصل: لم أره صلى. فهو لم يعلم ذلك وأولئك علموا ومن علم حجة على من لم يعلم
ولذلك ذهب الجمهور إلى جواز الصلاة في البيت الفرض والنفل وبه قال أبو حنيفة والثوري وجمهور العلماء كما قال النووي في (المجموع) وقال الترمذي:
[429]
(حديث بلال حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أكثر أهل العلم لا يرون بالصلاة في الكعبة بأسا وقال مالك بن أنس: لا بأس بالصلاة النافلة في الكعبة وكره أن تصلى المكتوبة في الكعبة وقال الشافعي: لا بأس أن تصلى المكتوبة والتطوع في الكعبة لأن حكم النافلة والمكتوبة في الطهارة والقبلة سواء)
وهذا الذي قاله الشافعي هو الحق إن شاء الله تعالى لأن الحديث وإن كان قد ورد في النافلة فالظاهر أن الفريضة مثلها في هذا الجواز لاستواء أحكام النوافل مع أحكام الفرائض وجوبا وتحريما وإباحة إلا ما استثناه الشارع ولا استثناء هنا
ولوضوح هذا الذي قاله الشافعي ذهب إليه ابن حزم وهو من هو في ظاهريته فقد قال: في (المحلى) ردا على أتباع مالك ما نصه:
(ما قال أحد قط: إن صلاته المذكورة صلى الله عليه وسلم كانت إلى غير القبلة وقد نص عليه الصلاة والسلام على أن الأرض كلها مسجد وباطن الكعبة أطيب الأرض وأفضلها فهي أفضل المساجد وأولاها بصلاة الفرض والنافلة ولا يجوز لغيرالراكب أو الخائف أو المريض أن يصلي نافلة إلى غير القبلة والتفريق بين الفرض والنافلة بلا قرآن ولا سنة ولا إجماع خطأ. وبالله تعالى التوفيق)
ومع وضوح هذا وظهوره فقد خالف فيه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث اختار ما ذهب إليه مالك رحمه الله فقال في (الاختيارات):
[430]
(ولا تصح الفريضة في الكعبة بل النافلة وهو ظاهر مذهب أحمد وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في البيت فإنها كانت تطوعا فلا يلحق الفرض لأنه صلى الله عليه وسلم صلى داخل البيت ركعتين ثم قال: هذه القبلة. فيشبه - والله أعلم - أن يكون ذكره لهذا الكلام في عقيب الصلاة خاج البيت بيانا لأن القبلة المأمور باستقبالها هي البنية كلها لئلا يتوهم متوهم أن استقبال بعضها كان في الفرض لأجل أنه صلى التطوع في البيت وإلا فقد علم الناس كلهم أن الكعبة في الجملة هي القبلة فلا بد لهذا الكلام من فائدة وعلم شيء قد يخفى ويقع محل الشبهة وابن عباس روى هذا الحديث وفهم منه هذا المعنى وهو أعلم بمعنى ما سمع)
قلت: ابن عباس الذي روى الحديث لم يفهم هذا المعنى بهذا التفصيل الذي ذهب إليه الشيخ من صلاة النافلة في الكعبة دون الفريضة فإنه نفى أن يكون عليه الصلاة والسلام قد صلى مطلقا في البيت حيث قال: ولم يصل حتى خرج منه فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال: هذه القبلة. ثم إنه رضي الله عنه لم يسمع هذا الكلام منه عليه الصلاة والسلام مباشرة كما يشير إليه كلام الشيخ وإنما أخذه عن أسامة أو غيره من الصحابة كما سبق ذكره وحينئذ فهو وغيره سواء ممن لم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم
ثم إن كلام الشيخ يفيد جواز استقبال بعض بنية الكعبة في النافلة وأما في الفريضة فلا بد من استقبالها كلها وليت شعري كيف يمكن استقبالها كلها عمليا فإنه من البديهي أن مستقبل الكعبة من خارجها إنما يستقبل
[431]
منها ما هو على سمته أمامه ثم يبقى أكثرها من عن يمينه ويساره غير مستقبلها؟ وحينئذ ما الفرق بين هذا وبين الصلاة داخلها وهو في كلا الحالين إنما يستقبل بعضها. ولذلك قال ابن حزم رحمه الله:
(واحتج أتباع مالك بأن قالوا: إن من صلى داخل الكعبة فقد استدبر بعض الكعبة (قال:) إنما قال الله عز وجل: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 150] فلو كان ما ذكره المالكيون حجة لما حل لأحد أن يصلي في المسجد الحرام لأنه هو القبلة بنص كلام الله تعالى في القرآن وكل من يصلي فيه فلا بد له من أن يستدبر بعضه فظهر فساد هذا القول. وأيضا فإن كل من صلى إلى المسجد الحرام أو إلى الكعبة فلا بد له من أن يترك بعضها عن يمينه وبعضها عن شماله ولا فرق عند أحد من أهل العلم في أنه لا فرق بين استدبار القبلة في
¥